العراق.. صراع يُكرّس الإقصاء

العراق.. صراع يُكرّس الإقصاء

04 سبتمبر 2018
+ الخط -
لا يمكن أن تتابع أخبار الوضع في العراق، والذي يبحث عن كتلته السياسية الأكبر لتشكيل الحكومة، إلا وتقف أمام مشهد غاية في التعقيد، وربما الغرابة، أو، إن شئت الدّقة، مشهد غاية في السخرية.
تتنافس اليوم كتلتان سياسيتان لتشكيل الكتلة الأكبر التي ستتولى عملية اختيار رئيس الحكومة وتشكيلها، بعد نحو أربعة أشهر من انتخاباتٍ سجلت عزوفاً شعبياً تجاوز 80%، ومع ذلك أصر رعاة العملية السياسية في العراق، أميركا وإيران، على أن يمضي قطار هذه العملية نحو محطة جديدة.
تضم الكتلة الأولى التي تسعى إلى أن تكون الأكبر رئيس الوزراء، حيدر العبادي، وزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، ورئيس تيار الحكمة، عمّار الحكيم. أما الثانية فتضم زعماء تحالف الفتح، هادي العامري، وائتلاف دولة القانون، نوري المالكي، ومليشيا عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي. وتوصف كتلة العبادي بأنها مدعومة أميركيا، وتوصف كتلة العامري بأنها مدعومة إيرانيا. وبين هذا وذاك، لا تنفكّ السفرات المكوكية لسفراء واشنطن وطهران ومبعوثيهما، عن التنقل بين مدن العراق، لإقناع العرب السنة تارة والأكراد تارة أخرى بالانضمام إلى هذه الكتلة أو تلك.
عقب احتلال العراق عام 2003، تم تصوير الصراع السياسي في العراق أنه طائفي، خصوصا وأن مجلس الحكم الانتقالي الذي شكل في يونيو/ حزيران من العام 2003 كان يحمل بذرة هذا الصراع، فقد شكل من 25 عضوا، منهم 13 شيعياً و5 أعضاء من العرب السنة، ومثلهم من الأكراد وآخرون من بقية المكونات.
جرت في العراق ثلاثة انتخابات تشريعية، أفرزت ثلاث حكومات امتدت كل منها أربع سنوات. تزعّم الأولى نوري المالكي من حزب الدعوة، وامتدت من 2006 حتى 2010 التي جرت فيها انتخابات، كان يفترض أن تعيد ترتيب الأمور، خصوصا وأنها شهدت مشاركة واسعة من العرب السنة، مشاركةً رجّحت كفة زعيم ائتلاف الوطنية، إياد علاوي الذي فازت قائمته بـ 91 مقعدا، وحلت أولى، ثم جاءت قائمة دولة القانون بزعامة نوري المالكي ثانية بـ 89 مقعدا. وكان يفترض ان تكون انتخابات 2010 مفصلية، ولو أنها مرّت كما جاءت بها النتائج، لكان يمكن أن يكون حال العراق اليوم أفضل، غير أنه تم الالتفاف عليها من خلال تفسير الكتلة الأكبر التي وردت في الدستور، حيث لجأ المالكي وحلفاؤه إلى المحكمة الدستورية لتفسير الكتلة الأكبر، ففصلت المحكمة قائلة إنها التي تشكل داخل قبة البرلمان، فعاد المالكي رئيساً للوزراء، وذهبت طموحات العراقيين بالتغيير عبر صناديق الاقتراع أدراج الرياح، لتكون تلك الانتخابات مفصلية في علاقة العراقي بصندوق الاقتراع. ثم جاءت انتخابات 2014، وشهدت عزوفاً كبيراً من العراقيين، فقد بدأ اليأس يدبّ بينهم، وعاد حزب الدعوة ليرشح مرشح الترضية، حيدر العبادي، ليكون رئيسا للوزراء.

ثم جاءت انتخابات 2018، وبدلاً من أن تكون المنافسة بين أضلاع المكونات الثلاثة في العراق، الشيعة والسنة والأكراد، تحول الصراع السياسي إلى صراع بين القوى الشيعية، فلم يعد للعرب السنة، خصوصا بعد أن فشلت تظاهراتهم المطالبة بالحقوق والمساواة عام 2013، وما تبع ذلك من دخول "داعش" مدنهم، وما جرى لهم من نزوح وتهجير وتدمير لمدنهم، لم يعد لهم صوتٌ يسمع، حتى مع اشتعال نار التظاهرات المندّدة بالفساد والطبقة الحاكمة في مدن الجنوب.
أما الأكراد، فلا تقل نكبتهم عن نكبة العرب السنة، فقد عوقبوا على رغبتهم بالاستقلال، وتم طردهم من كركوك، وفرضت عليهم بغداد حصارا جوياً، وقطعت عنهم الرواتب، ومنعت أي تعامل مع حكومة الإقليم بعيدا عن سلطة بغداد.
اختصر المشهد إذن بالصراع السياسي بين كتلتين شيعيتين، ولم يعد للعرب السنة أو الأكراد من دور حقيقي وفاعل في العملية السياسية، الا بما يضيفونه لهذه الكتلة أو تلك من تكبيرٍ لحجمها، وترجيح كفتها لتشكيل الحكومة، مقابل وعود.
سياسياً، عانت القوى السنية من التهميش والإقصاء منذ العام 2003، ورفضت حكومة بغداد الاستجابة لمطالبهم التي خرج الملايين ينادون بها عبر تظاهراتٍ امتدت لأشهر، قبل أن يتم قمعها بقوة السلاح، لتفتح الطريق أمام ظهور "داعش" واحتلال المدن. وعانى الأكراد من التهميش نفسه، وإنْ بمستوى أقل بعد تحالفٍ كان يقال عنه إنه استراتيجي مع القوى السياسية الشيعية.
نجحت إيران بعد سنواتٍ من التغلغل والنفوذ في إحداث صورةٍ مضللةٍ للمشهد السياسي في العراق، ومشهد الصراع بين كتل شيعية لتشكيل الكتلة الأكبر دليل على ذلك، فهل تحوّل مقتدى الصدر الذي كان ذات يوم ذراع إيران الضاربة، وعمار الحكيم الذي قاتل إلى جانب الجيش الإيراني ضد العراق في ثمانينات القرن الماضي، وحيدر العبادي ابن حزب الدعوة الذي احتضنته إيران سنوات، إلى تيار أميركي بمواجهة تيار آخر مدعوم من إيران؟
ما يجري اليوم في العراق تكريس للهيمنة وتعزيز للإقصاء الذي عانت منه مكوّنات عراقية كبيرة وعديدة، وإذا لم يجر تداركه من خلال إعادة تفسير الكتلة الأكبر التي تشكّل الحكومة، وتنظيم انتخابات حرّة وشفافة ونزيهة وبأشراف أممي، فإن الانفجار الشعبي الكبير قادم لا محالة، وما تظاهرات أهالي جنوب العراق اليوم إلا الشرارة الأولى لحريقٍ سيكبر ويمتد حتماً.
96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...