أشرف مروان وفيلم ترومان شو

أشرف مروان وفيلم ترومان شو

04 سبتمبر 2018

مشهد من فيلم "الملاك" .. (يوتيوب)

+ الخط -
يرى صديق بشأن فيلم الملاك عن رجل الأعمال وتاجر السلاح والدبلوماسي المصري الراحل، أشرف مروان، وتنتجه شبكة نتفليكس (NETFLIX)، وسيتم عرضه في دور السينما حول العالم بعد أيام، أن هذه الشبكة صهيونية وتجب مقاطعتها، وأن إسرائيل تحاول إخفاء هزيمتها أمام المخابرات المصرية، وتحاول الإيحاء للعالم بأنها الأكثر تفوقا، وبأن مروان كان يعمل لصالحها وليس لصالح مصر، كما حاولوا الإيحاء بذلك بخصوص الجاسوس المصري رفعت الجمال الذي اشتهر باسم رأفت الهجان.
قلت له: نعم، ليس هناك مصداقية لدى الإسرائيليين الذين يحاولون، طوال الوقت، خداع العالم وتضليلة، ولبس دور الضحية، وسرقة حقوق الشعب الفلسطيني. وربما يكون كلامك صحيحا، وقد تكون إسرائيل قد سعت إلى إنتاج تلك الرواية في فيلم لترسيخ تفوّقها الاستخباري، ومن أجل تزييف التاريخ، ربما، ولكن الطرف الآخر أيضا ليس له أي مصداقية عندي، للأسف الشديد. الطرف الذي يُفترض أنه الوطني الذي يقوم على حمايتنا وحماية الوطن من الأخطار والمؤامرات والشرور. تقوم أجهزته الآن بالتطبيع مع إسرائيل بشكل غير مسبوق، وهي الأجهزة التي تتحكّم في وسائل الإعلام بغرض تزييف الحقائق ونشْر الشائعات والأكاذيب بشأن كل من يحاول الإصلاح، وهي الأجهزة نفسها التي تتهم كل معارض وطني، وكل من له رأي مخالف، بأنه خائن وعميل للغرب وإسرائيل، وهي الأجهزة الأمنية نفسها التي تحجب المعلومات الصحيحة، وتحاول أن تجعلنا دائما نعيش في أوهام وقصص خيالية عن التاريخ والتفوّق والمؤامرات التي تعيق تفجّر عبقرياتنا ونبوغنا. للأسف، يا صديقي، ليس للطرفين مصداقية.

ذكّرني الحديث الحزين بفيلم سنيمائي أثار ضجة في نهاية التسعينيات "ترومان شو- Truman show"، بطولة الكوميدي جيم كاري، يحكي عن ترومان الذي يعيش حياة مصطنعة ومختلقة منذ ولادته من دون أن يعلم، فهو يعيش داخل برنامج تلفزيوني يتم عرضه على الجمهور حول العالم طوال الـ 24 ساعة، يعيش داخل ستوديو كبير ضخم، أقامته شركة إنتاج ضخمة، يعيش على جزيرة صناعية تحت سماء صناعية وشمس وقمر يعملان بالكهرباء والتأثيرات الضوئية. يكبر ترومان ويدخل المدرسة ثم الجامعة، يتعلم مناهج مختلفة وتاريخا وجغرافيا مختلفين عن تلك الجزيرة التي قالوا له إنها مركز الكون، وإن الخروج منها مجازفةٌ كبرى.
يتخرّج ترومان من المدرسة والجامعة، ثم يتزوج، وهو لا يعلم أنه محاط بالممثلين والكومبارس، أبوه وأمه ممثلان يعملان في البرنامج التلفزيوني، زملاؤه في المدرسة وأصدقاؤه في العمل، حتى الفتاة التي أحبها وتزوجها ممثلة تعيش معه مقابل راتبها الذي تتقاضاه من شركة الإنتاج الضخمة التي تنتج البرنامج. مع الوقت، يدبّ الشك في قلب ترومان، تتكرّر الأحداث برتابة، ما الهدف من الحياة في عالم بهذا ىالشكل، إلى أن حدثت مجموعة من الأخطاء، فزاد الشكّ لديه، مثل سقوط مصباح كهربائي من السماء، أو سماعه طاقم العمل، وهم يتحدّثون عبر موجات الراديو، فقرّر ترومان البحث عن الحقيقة، حتى لو كلفه ذلك حياته، فقرّر الخروج من تلك الجزيرة، لاستكشاف العالم خارجها. وفي كل مرة يحدث ما يعيق ذلك، ففجأة يحدث زحام مروري عجيب، أو حريق في الغابة، أو عطلٌ مفاجئ للحافلة التي كان يُفترض أنها تنقل المسافرين إلى خارج الجزيرة، أو برق ورعد وعواصف مفاجئة.
صاحب البرنامج والمنتج هو أبوه بالتبنّي، وضعه منذ مولده أمام الكاميرات، ليتابع العالم ذلك الطفل ساعة بساعة، ودقيقة بدقيقة، كتّاب سيناريو يكتبون له أحداث حياته، ممثلون محترفون وكومبارس يؤدّون أدوار عائلته وأصدقائه وزملائه في العمل، المارّة وركاب المواصلات والجيران وسكّان المدينة. يربح البرنامج أموالا طائلة كل ثانية، بسبب الإعلانات الحصرية، وبالتالي كان صاحب البرنامج حريصا على عدم اكتشاف ترومان الحقيقة، وعدم خروجه من الأستوديو والعالم الاصطناعي، كيلا تتوقف الأرباح الخيالية الناتجة من تسويق حياة ترومان، فزرع فيه فوبيا الماء منذ صغره، ليجعله يهاب السباحة أو الإبحار، يوهمه دائما أن الهلاك خارج هذه الجزيرة. كلما يريد ترومان أن يخرج من الجزيرة، لاستكشاف ما هو خارجها يأمر صاحب البرنامج بإطلاق الأعاصير والسيول، لكن إصرار ترومان على معرفة الحقيقة كان أقوى من كل شيء، فتغلّب على خوفه من الماء، وأخذ القارب خلسةً، ليخرج من الجزيرة، وتحمّل العواصف الصناعية المميتة، حتى اصطدم بحائط الأستوديو الذي كان يشبه السماء الصناعية.
تحدّث إليه صاحب البرنامج، أبوه بالتبنّي، كأنه إله خالق، أو من حكام دول الشرق الأوسط، قال له جعلتك تعيش في ذلك العالم الصناعي كل تلك السنوات من أجل مصلحتك، ومن أجل حمايتك من الأخطار، فالعالم الحقيقي قاسٍ وأشرس مما تتخيّل. الآن أصبحت لك حرية الاختيار، بعدما اكتشفت الحقيقة. لكن لا تتخطّ هذا الباب، وعُد أدراجك، فأنت لا تعلم كمَّ الأهوال الموجودة في العالم الحقيقي، لكن الفيلم ينتهي بإصرار ترومان على عبور الباب، واستكمال حياته في العالم الحقيقي.

نعيش نحن كذلك في مثل ذلك العالم المصطنع. يدرّسوننا في مدارسنا قصصا كاذبة، الجزء الصادق فيها يكون من منظور واحد فقط، متجاهلا باقي وجهات النظر والجوانب، وباقي العوامل التي أدّت إلى ذلك. وفي الإعلام، نسمع كل يوم قصصا ليس لها أساس من الصحة، وخطابا رسميا يزرع الخوف من محاولة البحث عن الحقيقة، يحرّض على الآخر، ويتهمه بكل الشرور، ويعلق عليه كل أسباب الفشل، خرافات وحواديت عن المؤامرات الكونية الكبرى، وحروب الجيل الرابع التي تعطّل النهضة والانطلاقة الكبرى والتحوّل إلى دولة عظمى، ليس عن الحاضر فقط، ولكن الماضي أيضا. وقصة أشرف مروان خير دليل على غياب المعلومة الحقيقية التي تسمح بالتأويل، هل كان عميلا مزدوجا فعلا أو ساعد في تضليل إسرائيل عام 1973 كما زعمت مصادر رسمية بعد واقعة انتحاره أو اغتياله عام 2007؟ أم هو كان فعلا عميلا لإسرائيل، لكن الأجهزة المصرية تخجل من الاعتراف بذلك؟ ولكن يبدو أن تلك القصة ستنضم إلى قصص عديدة مثيرة للجدل، لا حسم لها حتى الآن، مثل قصة رفعت الجمال وغيره، وقصة هزيمة يونيو/ حزيران 1967، وما سبقها من مغامرات جمال عبد الناصر. وحتى تفاصيل الحرب والعبور في أكتوبر/ تشرين الأول 1973 لا يزال حولها لغط كثير بشأن حقيقة ما حدث بعد يوم 9 أكتوبر، من توقف مفاجئ للجيش المصري، ثم التقدّم الإسرائيلي، والثغرة، وفك الاشتباك، ثم معاهدة السلام. وهناك شهادات عديدة لقادة الحرب وكتابات قادة في الجيش المصري آنذاك تحكي قصة أخرى، تختلف عن الرواية الرسمية التي تعلمناها في المدارس، ونشاهدها في الأفلام السنيمائية، ونسمعها في برامج التوك شو.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017