تونس.. نهاية التوافق

تونس.. نهاية التوافق

30 سبتمبر 2018

السبسي والغنوشي في قرطاج.. هل انتهى التوافق؟ (16/7/2016/فرانس برس)

+ الخط -
انتظر التونسيون إطلالة الرئيس الباجي السبسي عليهم في الحوار الذي أجرته معه قناة تلفزية خاصة، قبل أيام، غير أنه، وعلى خلاف كل الانتظارات، ظلت حيرتهم قائمة إلى حد كبير، خصوصا وأن عدة أسئلة ظلت عالقة بلا جواب مقنع. ومع ذلك، قدم الحوار جديدا إلى حد خال بعضهم أنه تم ترتيبه خصيصا لإعلان نهاية التوافق بين الشيخين، رئيس الجمهورية الباجي السبسي وزعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، وهو التوافق الذي صيغت خطوطه الكبرى مند لقاء باريس في شهر أغسطس/ آب 2013، وأصدر الغنوشي، قبل أسابيع، رسالة مطولة إحياء لذكراه الخامسة، منوها بمآثره العديدة التي بفضلها تعزّز الانتقال الديموقراطي، وتجنّبت تونس السقوط في العنف والاحتراب الأهلي، حسب تقديره.
كان ذلك التوافق الذي رسم حروفه الأولى الشيخان في باريس، في صيفٍ ساخنٍ كانت البلاد فيه على شفا حفرةٍ من الانهيار في الفوضىى، حاسما في جعل تونس استثناءً دالا مقارنة بتجارب البلدان العربية التي فشلت في إنقاذ ثوراتها. ولكن علينا ألا نغفل توفر عوامل عديدة أخرى شكّلت "بنية تحتية" لكل التسويات اللاحقة: حركة إصلاحية عمرها أكثر من قرن، نخب فكرية واجتماعية عريقة، مجتمع مدني صلب ومتين، جيش ظل بعيدا عن أي دور سياسي منذ الاستقلال.. إلخ.
بقطع النظر عن حيثيات ما يمكن أن يكون قد دار بين الشيخين، ومن هي الجهة التي رتبت ذلك اللقاء، بعد أن كان الرجلان يصرّان على أن مشروعيهما قائمان على تنافر جوهري، فإنها توافقا على جملة من القضايا، على غرار رفض العنف، الحرص على التداول السلمي على السلطة، رفض زجّ المؤسسة العسكرية، فضلا عن ترتيب خروج حركة النهضة وحلفائها
 (الترويكا) لتفسح المجال لحكومة تكنوقراط، تنظّم انتخاباتٍ تشريعية. لم يكم الأمر يسيرا على الرجلين، تحت تجييش كبير كان تقوم به قواعد حزبيهما في ما يشبه الحرب الباردة بينهما. أطّر الرباعي الراعي للحوار الوطني الحوار بين الفرقاء السياسيين، حتى حاز على هذا الجهد الكبير جائزة نوبل للسلام. وكانت التكلفة باهظة لذلك التوافق، واضطرت "النهضة" للتنازل عما كانت تراه حقها المشروع في الحكم، بمقتضى الولاية التي منحتها انتخابات المجلس التأسيسي، ثم خسرت المنزلة الأولى في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2014 التشريعية، وجاءت الثانية بعد حزب نداء تونس.
ليس معلوما تماما ما دار بين الشيخين في الأسابيع القليلة الفارطة، لكن الكل يعلم أن لقاءاتهما عقدت على خلفية الأزمة السياسية الحادّة والمركبة التي يمكن إيجازها برغبة رئيس الجمهورية في إقالة رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، وهو الذي اقترحه مند سنتين على مجلس النواب، على إثر التخلي عن رئيس الحكومة السابق الحبيب الصيد. ويبدو أن العلاقة بين المؤسستين التنفيذيتين وصلت إلى أدنى مستوياتها، فقد عجز الرئيس عن إقالة رئيس حكومته، وتجنب تفعيل الفصل 99 من الدستور التونسي الذي قد يضع مصير رئيس الجمهورية نفسه في الميزان، ففي حال فشل مجلس النواب في التصويت على مغادرة رئيس الحكومة مرتين متتاليتين، فإن رئيس الجمهورية يستقيل. وقد رفض الرئيس السبسي في المقابلة التلفزيونية أخيرا صراحة اللجوء إلى ذلك الفصل، وحرص على تكرار الطلب من رئيس الحكومة، يوسف الشاهد، التوجّه إلى البرلمان لتجديد الثقة من عدمها، وهو ما كان قد طرحه، قبل أكثر من ثلاثة أشهر، ولا يبدو أن الشاهد يعير ذلك الرجاء اهتماما.
يتحدّث بعض خصوم الشاهد من داخل حزبه عن تمرّد علني غير مسبوق، فضلا عن تجاوز الأعراف الأخلاقية التي تتنكر ل"صاحب الفضل"، أي رئيس الجمهورية الذي أعلاه مرتبة عالية، حين منحه رئاسة الحكومة، وهو الذي كان وزيرا مغمورا حسب خصومه، ولم يكن له نشاط سياسي يذكر، قبل الثورة ولا بعدها. والبادي أن يوسف الشاهد تمرّد على إخوته وأبيه الروحي، ليتحول لاعبا ماهرا وماكرا منشغلا بتنمية حسابه السياسي الخاص.
ورفضت "النهضة" بكل عناد وشراسة مطالب إقالة يوسف الشاهد الصادرة تقريبا عن الجميع: حزب رئيس الحكومة (نداء تونس)، الاتحاد العام التونسي للشغل المعارض الذي سلم بعد أشهر من المطالبة العلنية برحيله بضرورة العودة إلى مجلس النواب، المعارضة التي تراه مسؤولا عن كل الإخفاقات الراهنة، خصوصا في المجالين الاقتصادي والاجتماعي. ويصدر رفض حركة النهضة تحت مسوغ وحيد، الحفاظ على الاستقرار السياسي، للتفرّغ لحل المعضلات الاقتصادية وإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية في موعدها (خريف 2019). وتتجنب "النهضة" المساهمة في إعادة سيناريو إزاحة الحبيب الصيد، حيث صرحت بعض قياداتها إن الحركة تنازلت مكرهةً عن هذا الرجل، تحت ضغط الرئيس، ولا يوجد سبب مقنع لما جرى قبل سنتين. ترفض الحركة إزاحة يوسف الشاهد بالطريقة نفسها، لاعتباراتٍ غير سياسية كما تعتقد. ولذلك تدعو الى إعادة اللعبة إلى مجلس النواب، وهي تدرك جيدا أنه لا يمكن سحب الثقة منه، وهي التي تملك أكبر كتلة نيابية حاليا يضاف إليها كتلة التحالف الوطني التي تشكلت أخيرا للدفاع عن الشاهد من نوابٍ في "نداء تونس"، مصطفيّن وراءه، ونواب آخرين ملتفين حوله، قادمين من تجارب حزبية أخرى، وقد تكون هذه الكتلة الثانية من حيث حجمها، وربما يشكل يوسف الشاهد منها حزبا، يخوض فيه الانتخابات المقبلة، إذا فشلت مساعي رأب الصدع في "نداء تونس"، بل ترجح مصادر عديدة أنها ستكون حصانه الرابح في معاركه المقبلة، خصوصا إذا تم التسريع بإقالته من حزبه هذا، بعد أن تم تجميد عضويته.
لم يصدر الشيخ راشد الغنوشي بعد أي موقف يعقب فيه على مقابلة الرئيس السبسي التلفزيونية، وإنما أنكر قياديون في حركة النهضة أن رئيس الجمهورية أعلمها بقرار إنهاء التوافق ( كما ذكر حرفيا). وفي انتظار ما يمكن أن يطرأ من تراجع رئيس الجمهورية، على الأقل لتجنب التصعيد في غياب وساطات، فإن حالةً من الترقب سيطرت على المناخ السياسي. بل حرصت أطراف عديدة على الاحتفاء بنهاية التوافق، وهي ظلت تراه تحالفا مغشوشا خنق الحياة السياسة. وتشتغل المعارضة، كما أصحاب أطروحات الاستقطاب الحاد، مند إعلان رئيس الجمهورية إنهاء التوافق، إلى دفع الأمور إلى أقصاها، وينخرط هؤلاء في حملةٍ انتخابيةٍ سابقها لأوانها. ولكن يعلم هؤلاء أن إعادة ثقافة الاستقطاب تتطلب وقتا طويلا، حتى يتحول إلى رهان سياسي وفكري لتعبئة الرأي العام وتجنيده. ستستغل معامل صناعة الاستقطاب هذا، وستوظّف تصريحات قيادة "النهضة" ومبادراتها، لتشتعل المعركة الانتخابية خلال الأشهر المقبلة.
السؤال الذي يحير الجميع: ما الذي دفع الرئيس السبسي إلى إعلان القطيعة الآن تحديدا، في حين ظلت "النهضة" تنكرها أصلا؟ ترجّح فرضياتٌ أن يكون الرئيس قد وضع حركة النهضة في الأيام القليلة الفارطة أمام خيارين: الانتصار لرئيس الحكومة وقد عجز الرئيس سياسيا، وحتى دستوريا، عن إزاحته، أو الاصطفاف وراء الرئيس في معركته مع الرجل، وهي تعلم أن ابنه حافظ قائد السبسي هو من سيحصد المنتوج السياسي لهذه المعركة، خصوصا وأن "النهضة" تأكدت أن الرئيس لن يجدّد ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة، وأن كل هذا المعارك التي يخوضها ضد الشاهد، وحتى الحركة نفسها، هي من أجل ابنه، تحت ضغط دوائر عائلية وسياسية، اتخذت من قصر قرطاج غرفة عملياتها.
يبدو أن "النهضة" قد اختارت، لأسبابٍ عديدة، عدم الرضوخ لطلبات الرئيس، الداعية ضمنا إلى مؤازرته ضد رئيس الحكومة المتنطع عليه، وهي معركة يخوضها الرئيس بالوكالة عن 
ابنه، حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي لحزب نداء تونس، والذي يتوهم أن الزعامة، على افتراض توفرها في أبيه، يمكن أن تورّث. ولم يكن موقف "النهضة" ناجما عن نقاء مبدئي خالص، فهي تعلم أن للسياسة ضروراتها. وتدرك من مؤشراتٍ عديدة أن الرئيس لم يعد مسيطرا على محيطه المقرّب منه، المؤلف من مستشارين وأقارب ينهشهم الطموح والمغامرة، وهي تخشى أن ينتهي الأمر إلى مآلات الحبيب بورقيبة وحتى زين العابدين بن علي، حين يتحول الرئيس إلى واجهة تنفذ إرادات متخفية، هي أجنحة ومصالح حادّة تخترق محيط الرئيس، مستعدة لخوض أشرس المعارك، من أجل رغبة جامحة في تحقيق مصالح ومواقع، خصوصا وهي تعلم أيضا أن الرئيس السبسي لن يترشّح، لأسباب عديدة، منها المعطى الدولي الذي لم يُبد الحماس نفسه لتجديد ترشحه، فضلا عن صعوبة الفوز بعهدة ثانية، إذ تبين المؤشرات تراجع شعبيته، فضلا عن تقدّم سنه.
لذلك كله، تحرص حركة النهضة على طي صفحة الباجي السبسي حاليا، والتفرغ خلال سنة تقريبا "لصناعة رئيس جديد"، يلعب الدور نفسه الذي أمّنه لها الرئيس السبسي: قبول إدماجها في المشهد السياسي، المشاركة في الحكم، وتأمين غطاء دولي لحد أدنى من قبولها. كرّاس الشروط التي قد تنكبّ "النهضة" على صياغته سيتضمن التعبير عن المواصفات التي عليه أن يتوفر عليها: الحاجة إلى رئيسٍ يعبر عن النظام القديم بشكل أو بآخر، كأن يكون أحد وزراء بن علي مثلا، ممن لم تكن لهم علاقة بملفات الفساد أو التعذيب، المقبولية الدولية، وتحديدا من القوى الإقليمية أو الدولية، وألا تكون له رؤى استئصالية تحرص على اجتثاث "النهضة". والأكيد أن الحركة تعلم أن هذه الشروط تتوفر في عديدين مقبلين على الترشّح.
7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.