في مسألة يوسف الشاهد

في مسألة يوسف الشاهد

29 سبتمبر 2018
+ الخط -
بعد شدّ وجذب، ولأي وطول انتظار، حسمت الهيئة السياسية لحركة نداء تونس أمرها، وأعلنت فكّ عقدة الوصل الأخيرة بين الحزب ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، وأصدرت بيانا أخبرت فيه بتجميد عضوية الشاهد في الحزب، وبرّرت ذلك بخروجه عن الخطّ الحزبي ورفضه الإجابة عن أسئلة وجّهتها إليه الهيئة، وكذا بفشله، من وجهة نظرها، في إدارة الأزمة السياسية والاقتصادية المشهودة في البلاد، في ظلّ ارتفاع الأسعار وانحدار الدينار، وتدهور المقدرة الشرائية للمواطن وارتفاع المديونيّة، وعجز الميزان التجاري. ومع أنّ الحدث يبدو، في الظاهر، خصومة بين رئيس الوزراء وحزبه القديم، فإنّه يحمل في طيّاته تداعيات ودلالات مهمّة، تتّصل بمستقبل "نداء تونس" أوّلا، وبمصير يوسف الشاهد ثانيا، وبمعالم المشهد السياسي وتفاعلات التونسيين معه ثالثا.
لم يكن تجميد عضوية يوسف الشاهد في حركة نداء تونس حدثا مفاجئا، بل يُعتبر تتويجا لمسلسل صراع بين الطرفين، ظهرت بواكيره مع امتعاض قياديين في الحزب من عدم توزيرهم في حكومة الشاهد، واعتراض آخرين على عدم حماسة الرّجل لتنصيب "ندائيين" في مواقع قياديّة مهمّة في المحافظات والمعتمديّات وهياكل الدولة الحيوية، وكذا لعدم التزامه ببعض محامل البرنامج الاقتصادي والسياسي للحزب. وتعزّزت أزمة الثقة بين الجانبين بعد تشكيك وجوه من "نداء تونس" في الحملة التي شنّها الشاهد على الفساد، وعدّها بعضهم انتقائية، تستهدف مموّلي الحزب، وفي مقدّمتهم رجل الأعمال المثير للجدل، شفيق جرّاية. وتأكّد الجفاء بين الجانبين، بعد مطالبة قياديين في "نداء تونس" برحيل حكومة الشاهد، بدعوى عجزها عن إنعاش اقتصاد البلاد المُنهك. وكذا بعد أن انتقد رئيس الوزراء بصراحة أداء حافظ قايد السبسي، المدير التنفيذي للحزب ونجل رئيس الجمهورية، واتهمه بتدمير الحزب الحاكم وتصدير أزمته إلى مؤسسات الدولة، على نحو أثّر سلبا في الاستقرار السياسي، وفي سيرورة الإصلاح الاقتصادي، والانتقال الديمقراطي بالبلاد.
ويبدو أنّ إصرار "نداء تونس" على تغيير الحكومة، من دون تقديم بدائل مقنعة، ومن دون 
البرهنة على جدوى التعاقب الحكومي، جعل المعركة بين الطرفين تظهر للرّأي العام باعتبارها معركة تنافسٍ على النفوذ، وتسابق على استقطاب الأنصار بين السبسي/ الابن ويوسف الشاهد. وعمليّا، دلّ قرار تجميد عضوية رئيس الحكومة على تعطّل لغة الحوار داخل الحزب الحاكم، وبان واضحا عجز قياداته عن إدارة الاختلاف، ووضع حدّ لدوّامة الانشقاقات الداخلية التي شتّتت الحركة، منذ تولّيها مقاليد السلطة. وحدث تجميد الشاهد لم يكن محلّ إجماع داخل الحزب، فقد أدّى إلى انقسام الندائيين بين مؤيّد قرار إبعاد الشاهد ومعارض له. وجلّى ذلك إعلان نوّابٍ في "نداء تونس" استقالاتهم منه، والتحاقهم بكتلة الائتلاف الوطني (41 نائبا) التي تشكّلت حديثا، وأعلنت اصطفافها إلى جانب الشاهد وحكومته. ومعلوم أنّ هذا الانقسام يُقلّل من فُرص الحزب في أن يكون فاعلا في المشهد البرلماني السنة المقبلة، ويُضعف من حظوظه في كسب الاستحقاقات الانتخابية، الرئاسية والتشريعية المرتقبة، ويُساهم في في تهرئة صورته السياسية، وتآكل شعبيّته داخل الاجتماع التونسي.
والظاهر، في خصوص تأثير قرار التجميد في يوسف الشاهد، أنّ الرّجل كان يتوقّع هذه النهاية في علاقته بالحزب، بالنظر إلى تراكم المسائل الخلافية بين الطرفين. ونجح الشاهد في تسجيل نقاطٍ لصالحه في أثناء مواجهته مع حزبه القديم، فقد ظهر للرّأي العام التونسي في صورة شخصية سياسية، ديناميّة، تتبنّى مشروع التغيير والإصلاح، وجلّى ذلك إعلانه الحرْب على الفساد، ومبادرته بنقد "نداء تونس"، وتعبيره عن معارضته منطق التوريث، والهيمنة والتفرّد بالقرار داخل هياكل الحزب. كما أنّ تأكيده، في أكثر من خطاب له، أولوية الإصلاح الاقتصادي والاستقرار الاجتماعي، وإقدامه على إقالة مسؤولين ووزراء تحوم حولهم شبهات فساد، زاد نسبيّا من شعبيّته لدى التونسيين، ومكّنه من كسب تأييد حركة النهضة التي تمسّكت بالاستقرار الحكومي تأمينا لسيرورة إصلاحية اقتصاديّة ناجعة.
وعلى صعيد المشهد السياسي العام، المؤكّد أنّ تجميد عضوية الشاهد في "نداء تونس" يُقلّص من الحزام الحزبي/ النقابي الدّاعم للحكومة، فبعد انسحاب الاتحاد العام التونسي للشغل، والحزب الجمهوري، ومشروع تونس، وحركة آفاق، من وثيقة قرطاج، يجد الشاهد نفسه في 
قطيعةٍ مع الحزب الذي احتضنه وبارك توزيره. وهذا لا يعني، بالضرورة، إمكان سحب الثقة من حكومة يوسف الشاهد، لأنّها تحظى، من ناحيةٍ، بتأييد حركة النهضة، الحزب الأوّل في البرلمان (68 نائبا)، ولأنّها تجد، من ناحية أخرى، دعما قويّا من الجهات المانحة (الاتحاد الأوروبّي، صندوق النقد الدولي...) التي ترى في استمرار الشاهد وحكومته ضمانةً لتنفيذ سياسات التقشف وبرامج الإصلاح الاقتصاديّة. ومن غير البعيد، في ظلّ تشتّت المعارضة وتفكّك "نداء تونس"، أن يُعوّل الشاهد على كتلة الائتلاف الوطني لعقد تحالفاتٍ سياسية جديدةٍ، بغرض الاستمرار في إدارة دفّة الحكومة، أو التوجّه نحو الاستقالة طوْعا وتأسيس حزب جديد، يخوض معه معترك السباق على الرّئاسة في أفق 2019.
ختاما، يُمكن القول إنّ التوتّر المشهود بين رئيس الحكومة والحزب الحاكم (نداء تونس) يكشف محاولة كلّ طرفٍ تحميل الطرف الآخر مسؤولية الأزمة الاقتصادية والسياسية في البلاد، وتسجيل نقاط لصالحه استعدادا لانتخابات 2019. وفي الأثناء، يخشى مراقبون من أن يؤدّي احتدام الصّراع على الظهور وعلى مواقع النفوذ، لغايات شخصيّة وحزبيّة، إلى تغذية أسباب الاستقطاب والاحتقان داخل الشارع التونسي، وتعميق الفجوة بين الحاكم والمحكوم، وتيئيس النّاس من السياسة والسياسيين.
511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.