عن جلال أمين..

عن جلال أمين..

29 سبتمبر 2018
+ الخط -
أذكر جيداً ذلك اليوم عام 2005، حين قرأت للمرة الأولى للدكتور جلال أمين. كنت طالباً في عامي الجامعي الأول (حقاً مرت 13 عاماً؟!)، أشعر بالحماس المتفجّر لتغيير مصر والعالم، وهنا وقع بيدي كتابه الأشهر "ماذا حدث للمصريين؟"، وهمت حباً بالرجل الذي كان في وسعه أن يبسط أعقد مفاهيم الاقتصاد والاجتماع، من دون أن تشعر بأكثر من أنه يتحدّث عن قصص يومية عادية، وهو ما تكرّر حين قرأت "عصر الجماهير الغفيرة" الذي نال إعجابي أكثر من سابقه، ولا أبالغ لو قلت إنه ساهم بتكويني، ثم كان "فلسفة علم الاقتصاد" مدخلاً لفتح عينيّ على عالم واسع.
حين يتحول اسم أستاذ الاقتصاد إلى اسم شعبي يعرفه طلاب الجامعات، وحين يمكن ببساطة أن تشتري كتاباً متوسط الحجم، يعدك بمعرفة "قصة الاقتصاد المصري من عهد محمد علي إلى مبارك"، فالرجل بالتأكيد صاحب فضلٍ لا يُنكر.
كما كان مفيداً جداً لي بشكل شخصي قراءة سيرته الذاتية التي تحلّى فيها بقدر غير معتاد من الشجاعة والاعتراف بالنقائص الإنسانية، تخالف أفكاري التطهرية المبكّرة، فهو يذكر مثلاً أنه كانت لديه مشكلة نفسية بتصوره أن شكله لا يعجب الفتيات، وبالتالي كثيراً ما أحب أن يرى الإعجاب في عيون طالباته الجميلات، كما أن سبب ضيقه بالتدريس في كلية الشرطة أنها للذكور فقط.
كان الراحل دائما يمنح جانباً كبيراً للتفسيرات المتعلقة بالأدوار الخارجية، لكنه كان يضبط بوصلته، بحيث لا يتعدّى ذلك الجرعة الواقعية ذات الشواهد، أو يكتفي بطرح الأسئلة، أذكر كيف طرح، على سبيل المثال، أن نكسة 1967 ربما كانت حتمية بموجب التوازن الدولي، كان تعاملاً أفضل من جمال عبد الناصر سيخفف وطأة الهزيمة، وحجم ما ضاع، ولكن لن يحولها إلى نصر.
بدأت المبالغة تظهر تدريجيا مع تقدّمي بقراءة ما يكتب جلال أمين. كتب "التنوير الزائف" و"خرافة التقدم والتأخر"، سرعان ما فتحت عيني على مشكلاتها الجمّة، فالرجل يكاد يكون سلفياً في رفضه الغرب، وقضيته الأولى هي رفض التبعية، حتى يكاد لا ينظر إلا عبرها، إلى حد مهاجمته بحدة طه حسين ويوسف شاهين، كما ردّد مقولاتٍ شعاراتيةً عن الغرب المتخلف في حقيقته بعد خسارته الأسرة والأخلاق، في مقابل تقدّمنا بعاداتنا الأصيلة ونحو ذلك، والعجيب أن هذا يناقض مسيرته الشخصية.
قابلت الرجل مرتين، كانت إحداهما مصادفة غريبة، لم أصدّق عيني، حين شاهدت الرجل المهيب جالساً وحيداً على الرصيف في معرض الكتاب، عرّفت نفسي واحدا من قرّائه، فرحب بكل تواضع ولطف، لكنه طلب أن أحدّثه من أحد جانبي وجهه، حيث إنه لا يسمع بالأذن الأخرى.. هل كانت هذه علامةً لاختلاف ما يسمع في السنوات الأخيرة، حتى صار من الممكن أن نسأل ماذا حدث لجلال أمين؟
الرجل الذي كتب مراراً في نقد تراكم نتائج أنظمة عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك قرّر الانحياز لرؤية أن الربيع العربي مؤامرة، والرجل ذو الدراسة العلمية الرصينة قرّر أن يتخذ رأياً بهذه الخطورة بلا أدلة قائلاً: "أميل إلى أن لإسرائيل دوراً فى قيام ثورات الربيع العربي، وليس لديّ شواهد على ذلك، ولكن دعنا نبحث من المستفيد من هذا الوضع، سنجد أن إسرائيل أكبر هؤلاء المستفيدين". شرح، في مقالاتٍ أخرى، كيف يرى أن الحركات الإرهابية، مثل القاعدة ثم داعش، مجرد مؤامرات غربية ضدنا. ومن آخر إطلالاته مقابلة معه في صحيفة اليوم السابع عام 2017 أطلق فيها قذائف من طراز: "الديمقراطية والحريات أكذوبة العالم لخنق مصر"، موجهاً انتقادات لمحمد البرادعي وحمدين صباحي وكل المعارضة المصرية.
بقدر ما يستحق جلال أمين العرفان الشخصي يستحق نقداً حادّاً لمدرسته، وبقدر ما تجب الاستفادة من درسه الأعظم بشأن المثابرة في العمل لرسالته يجب اختيار الأسلوب الأمثل لذلك.