توبيخ أممي للدول الكبيرة

توبيخ أممي للدول الكبيرة

29 سبتمبر 2018
+ الخط -
تحفل اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الأسبوع الأخير من سبتمبر/ أيلول من كل عام، بخطابات لقادة دول العالم، حيث يحرص عديدون منهم على المشاركة في المناسبة، بما توفره من فرصةٍ لترويج السياسات المتبعة، ولإظهار مواهب خطابية. ولم تكن الدورة الحالية (الثالثة والسبعون) استثناء، وإنْ تميزت بحضور عدد أقل من رؤساء الدول الكبرى والكبيرة. وكما كان متوقعاً، فقد ألقى الرئيس دونالد ترامب خطاباً كشف فيه مجدّداً عن الوجه الانغلاقي لبلاده خلال ولايته، وبينما أثارت طريقته في إلقاء خطابه ضجّة من الضحك في القاعة، فإن ذلك لم يثن ترامب عن اتخاذ مواقف تثير الانقسام، ومن ذلك تهجّمه على مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وعلى المحكمة الجنائية الدولية، وكان من أغرب ما ورد في خطابه هجومه الحاد على ما سمّاها "القوى الغريبة"، وتدخلها في نصف الكرة الأرضية الغربي. ومفهوم الغرباء (أو الأغراب) من المفاهيم العزيزة على قلب اليمين الشعبوي في غير مكان، اليمين الذي يرفع الحواجز أمام الثقافات والشعوب الأخرى.
ولم يكن أقلّ غرابةً هجوم ترامب على ألمانيا، منتقدا سياسة الطاقة التي يعتمدها هذا البلد الأوروبي. وذلك استنادا إلى أنبوب الغاز الروسي "نورد ستريم 2" الذي يربط ألمانيا بروسيا. والحال أن الرئيس الأميركي لا يتوانى عن توظيف خطابٍ يجري توجيهُه إلى العالم أجمع، وباسم الدولة الكبرى، من أجل إثارة قضايا، وبالأحرى خلافاتٍ ثنائية، مع دولٍ يُفترض أنها صديقةٌ للولايات المتحدة كألمانيا. وقد وجد ترامب في هذه المناسبة فرصةً لإظهار خلافه مع هذا البلد، بدلاً من بذل الجهود الدبلوماسية لتضييق الخلافات. وقد ردّت المستشارة أنجيلا ميركل على تهجّم ترامب، قائلة إنه "يمكننا اعتماد سياستنا الخاصة واتخاذ قرارات مستقلة". وقد دأب ترامب على إظهار الخلافات مع ألمانيا بخصوص مسائل عدة، منها الخلاف بشأن 
الاتفاق النووي الغربي مع إيران، وبشأن حماية المناخ، حيث تخلت أميركا عن اتفاقية باريس لعام 2015، ومنها بشأن الهجرة إلى ألمانيا، حيث ذهب ترامب إلى القول مرة إن ارتفاع معدلات الجريمة يعود إلى سياسة الهجرة التي يعتمدها هذا البلد، وقد ردت ألمانيا بالقول إن الإحصاءات الدقيقة تفيد بعدم طروء أي ارتفاع على معدلات الجريمة! وهناك خلافات بشأن ما يعتبره ترامب إنفاقاً ألمانياً ضئيلاً على حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي يحمي هذا البلد، مع المطالبة بأن تتحدّد المساهمة باثنين بالمائة من الناتج الألماني، علاوة على انتقاداتٍ حادّة وجّهها ترامب إلى ألمانيا، بسبب العجز التجاري الأميركي معها "ما يدلّ على علاقاتٍ تجاريةٍ غير متكافئة" كما قال، وقد هدّد بعقوباتٍ على واردات الصلب الألماني، وبالذات على السيارات الألمانية.
وبينما تحدّث، لأول مرة، عن تفضيله حل الدولتين بخصوص الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، إلا أنه قرن ذلك بوقوفه مع الاحتلال الإسرائيلي "مائة بالمائة". مع التذكير بأن صفقته سترى النور خلال فترة لا تزيد عن أربعة شهور، معرباً عما يُشبه اليقين بأن الجانب الفلسطيني سينضم لاحقا إلى المفاوضات. وهو ما جعل الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، يصرّح بأن القضية تمر، في هذه الآونة، بأصعب الظروف.
ولم يتوقف الخطاب الأميركي عند هذه الأطراف، فقد شمل أيضا الصين وإيران و.. "أوبك". وهو ما يجعل خطابات الرئيس ترامب أشبه بحديث السهرات السارح والمنفعل والناقم، متفوقا في ذلك على الرئيس بوش الابن، وغيره من الرؤساء السابقين.
وإضافة إلى المستشارة الألمانية، ميركل، فقد كان من أوضح الردود على ترامب، وعلى سياسات الدول الكبرى، ما تقدم به الأمين العام، أنطونيو غوتيريس، الذي ألقى خطاباً نقدياً حذّر فيه من الفوضى التي تهدّد النظام العالمي، وسط تهديداتٍ بانهيار النظام العالمي المستند إلى القوانين، وفي قراءة المسؤول الدولي الأرفع، فإن القيم العالمية تتعرّض للاندثار، والمبادئ الديمقراطية محاصرة، وبينما أصبح العالم أكثر اتصالا ببعضه، أصبحت المجتمعات مجزأة. ويمكن الاستخلاص من خطاب غوتيريس أن الدولة الكبرى وبقية الدول الكبيرة (من دون
المساواة ما بينها في الوزر) لا تسهر على أمن العالم، بل تساهم في الفوضى، وأننا لا نعيش تعدّدية قطبية، كما يزعم الزاعمون، بل انهياراً لمنظومة القانون الدولي، إذ تتعرّض للاندثار القيم العالمية التي تجمع البشر، وتستند إلى ميثاق الأمم المتحدة، فأميركا تقود العالم إلى التراجع، ومن يعارضونها يسهمون بقسطهم، وعلى طريقتهم، في زيادة وتيرته، وذلك بتنافسهم المحموم معها على بسط الهيمنة والنفوذ، وحتى التفوق، في بعض الحالات، عليها، في مجال ازدراء حقوق الشعوب، وكما هو الحال مع السلوكين، الروسي والإيراني.
على أن هذه المناسبة الدولية الدورية للجمعية العامة تمنح الدول "الصغيرة" والنامية، والتي تتعرّض لتهديدات فرصة مخاطبة الأسرة البشرية وبقية الدول، والتعبير عن رؤيتها لعالم أكثر عدالة وأمنا وسلاما. وهو مما يدلل على أهمية الأمم المتحدة بيتاً للبشرية، ومرجعاً لحل النزاعات، والإعلاء من شأن التعاون بديلا من التسلط، على الرغم من أن هذه المنظمة لا تملك سلطة اتخاذ قرارات مستقلة عن مجلس الأمن، ولا تتوفر على قوة ضاربة، أو ميزانية كافية لمد يد العون للشعوب والدول المستضعفة.
بينما تجد الدول الكبيرة والوازنة في الانعقاد السنوي للجمعية العامة فرصةً لترويج سياساتها وبثّ أدبياتها السياسية، من دون توجيه نقد ذاتي يُذكر إلا في أضيق الحدود، هذا إن حدث ذلك، مع التذكير برسالة هذه الدول في حفظ الأمن والسلام في العالم، والاحتكام إلى القوانين، واحترام الآخر، والتشبث بقيم التعاون والحوار والتفاوض. ولو كان ما يفضي به مسؤولو هذه الدول على درجةٍ من الصدق والصواب، فلماذا يتحول عالمنا أكثر فأكثر إلى ما يشبه الغابة؟ من الذي يدفع الأمور إلى حافّة الهاوية؟ من الذي يسبّب، بسياسته الفعلية، انهيار النظام العالمي، ويعمد إلى إدارة الظهر للقيم العالمية (تمثلها مبادئ الأمم المتحدة وميثاقها وأحكامها) وفق التوصيف الدقيق، والنقد المرير الذي خرج به الأمين العام، غوتيريس، وبما يرقى إلى درجة التوبيخ العلني المفعم بحسٍّ أخلاقي رفيع؟