محمود ياسين.. سلامات

محمود ياسين.. سلامات

28 سبتمبر 2018
+ الخط -
تحتاج الممثلة (غير القديرة)، رانيا محمود ياسين، إلى أن تعرف أن الناس يمرضون، ويتعافون أو لا يتعافون، وأنها لا منقصةَ ولا إساءةَ في القول عن متوعّكٍ بالضعف ونقصان الهمّة إنه كذلك. أمّا أن هذه الشابّة مولعةٌ بأبيها النجم المعروف، والفنان القدير طبعا، فذلك لا يُجيز لها قولها إنه قد أعذر من أنذر، لما هدّدت أخيرا بمقاضاة كل من يكذب بشأن صحّة والدها الذي لم يعد قادرا على التمثيل، وليس في وُسعه تأدية أيّ مجهودٍ في أي عملٍ سينمائي أو تلفزيوني أو مسرحي، شافاه الله. قالت ذلك الممثلة شهيرة، زوجة نجمنا الذي نحبّ، إلا أن ابنتهما تطوّعت، بانفعالٍ وتوتّرٍ غريبيْن، لنفي اعتزال والدها، فيما القصّة لا تستحق اللتّ والعجن الكثيريْن على التلفزيونات وصفحات التواصل الاجتماعي، فالرجل في حالة اعتزالٍ لمهنته، وفي ما يُشبه العزلة والصمت، ومبتعدٌ عن المناسبات العامة والأضواء. ولأن أمرَه هو هذا، فإن الأدعى تكريمُه، والاحتفال به، واستدعاء تجربته الجميلة في السينما والمسرح المصريين، فليس محمود ياسين (77 عاما) اسما عابرا، ولا مجرّد ممثلٍ غائبٍ انجذب إليه جمهورٌ عريضٌ في زمنٍ مضى، وإنما هو حالةٌ لافتة، وأحد عناوين مرحلة ازدهار السينما المصرية وحيويّتها، صناعةً ومنتوجا ومكانةً، وفنا جماهيريا عربيا بهيجا. يحسن النظر في اسم محمود ياسين في هذا الإيقاع، وقد صارت السينما المصرية في كسادٍ معلوم، وتراجعٍ ظاهر، صناعةً ومنتوجا ومكانةً، وبلا قدرةٍ على إبراز نجوم لافتين.
ليس خبرا عاديا اعتزال محمود ياسين (150 فيلما)، وإنْ في البال أنه، في العقدين الماضيين، غادر السينما إلى الدراما التلفزيونية، التاريخية والاجتماعية، ولم يحقّق فيها مقادير الحضور التي كانت له إبّان نجوميّته فتىً أول للشاشة (كما وصفٌ خلعوه عليه، واستحقّه)، وإلى مشاركتيْن شرفيتين في فيلمين، قبل أعوام قريبة، واظب على حبّه العمل في مسلسلاتٍ إذاعيةٍ، وهو صاحب صوتٍ خاص، لطالما أفيد منه في إطلالاتٍ وتظاهراتٍ واحتفالاتٍ ومناسباتٍ فنيةٍ ورسميةٍ ومهرجانيةٍ غير قليلة. والبادي أن محمود ياسين، وهو بالمناسبة فنانٌ متواضعٌ وصاحب أخلاق رفيعة، يحترم حقائق الزمن، ولا يحتال عليها. وقد سمعتُه، في دردشةٍ مع الصحافة في الدوحة في العام 2003، يقول إن السينما تُؤثر الشباب، وإن جيله ودّع هذه المرحلة. وفي البال أن زميله الراحل، منافسَه في السبعينيات والثمانينيات، نور الشريف، واصل حضورا في السينما سنواتٍ أطول منه، وفيما يضمّ أرشيفُه أفلاما من ذات القيمة الفنية الرفيعة أقلّ مما للشريف، إلا أنه أبرعُ تمثيلا، وطاقتُه التعبيرية أقوى، وهذا رأيٌ غير ملزم لأحد.
إن رأى بعضُهم أن ستينيات القرن الماضي وخمسينياته كانتا عقدي السينما المصرية الذهبيّين، فإن السبعينيات والثمانينيات كانتا زمن هذه السينما الأكثر اكتراثا بالجمهور الواسع، عندما تخفّفت الأفلام من أجواء الفلل الباذخة والقصور، ومن الحكايات الساذجة عن تنازع الغنى والفقر، والخير والشر، ومضت إلى الاجتماعي والرومانسي والشعبي أكثر وأكثر، وإنْ بتجاريّةٍ ظاهرةٍ غالبا، احتاجت في ذلك إلى جيلٍ جديد من الوجوه، فكان محمود ياسين ونجلاء فتحي (عملا ثنائيّا في 17 فيلما) ونور الشريف وحسين فهمي وميرفت أمين، وغيرهم، بعد إطلالاتٍ أولى لهم في خواتيم الستينيات. ومن علاماتٍ في ذلك الزمن، كان فيها محمود ياسين نجمَ شبّاك حقيقيا، "أفواه وأرانب" (1977) مع فاتن حمامة، والفيلم الغنائي، خفيف الظل، "مولد يا دنيا" (1976)، مع عفاف راضي، وقبلهما الفيلم الاستثنائي "أغنية على الممر" (1972)، وبعدهم "نواعم" (1988) مع شهيرة. ولا يُغفل "سونيا والمجنون" (1977) مع نجلاء فتحي، عن "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي، وكانت روحيةً طيّبةً من نور الشريف مشاركته في هذا الفيلم بثلاثة مشاهد فقط.
يورّطنا تجوالٌ مسترسلٌ في زمن نجوميّة محمود ياسين ذاك في شيءٍ من النوستالجيا، وهذه ربما يسوّغها البؤس الراهن في حال السينما المصرية، التجاريّة أولا وتاليا. ولكن، هل من شيءٍ آخر ليس ركيكا في مصر الراهنة.. يجوز أن يكونا، البؤس والركاكة هذان، من أسبابِ محبّةٍ مضاعفةٍ لفنان كبير حقا، وإنسانٍ غاية في أناقة الروح، دارس الحقوق الذي غادر المحاماة إلى الفن، ثم صار النجم الذي نعرف، والمدعوّ له بدوام الصحة.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.