خطاب السيسي وفائض الكلام

خطاب السيسي وفائض الكلام

28 سبتمبر 2018

السيسي مام الجمعية العامة للأمم المتحدة: الحكم الرشيد (25/9/2018/Getty)

+ الخط -
يحرص المستبد دائما على أن يتحدّث عن تلك الأمور التي لا يفعلها بفائضٍ من القول ومعسول الكلام. ومن هنا، لا يعول كثيرا بعض الذين يقومون على تحليل خطابٍ على كل ما ينطق به، أو يقوم بالتأكيد عليه، ذلك أن المستبد يتخذ من الكلام عن الديموقراطية وحقوق الإنسان ما يغطي به على جرائمه التي يرتكبها ليل نهار، ومن ثم وجب على هؤلاء الذين يتابعون تلك الخطابات الاستبدادية أن يفطنوا إلى ذلك المعنى الذي يتعلق بفيض الكلام وفائضه من المستبد، والذي يكذّبه قبح أفعاله وسياساته، وجرم ممارساته وشواهد استبداده وطغيانه، فيظل الخطاب يمثل هنا غطاء من الكلام الزائف بقيامه بعملية تزوير كبرى، فحينما يتحدّث ذلك الحديث الكاذب الزائف، فإن الممارسات التي يقوم بها المستبد على الأرض تقول له، وبأجلى حقيقة: كذبت وزيفت وزوّرت.
لم تكن تلك الحقائق في تحليل الخطاب أجلى ما تكون إلا في خطابه الذي ألقاه أخيرا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ تلفظ بكلمات يقوم، في حقيقة الأمر، باغتصابها وقتلها على رؤوس الأشهاد، قبل أن يمارس قتل البشر وقتل الأمل وتخريب الوطن وتمزيق الشعب. اغتصاب الكلمات يقوم به المستبد كشربة ماء، لا يقيم وزنا لعقول الناس، وما تشهده بالفعل، ضمن عملية استخفافٍ كبرى، وتزوير فاضح يمارس فيه زيف الكلام وفائض الخطاب. لا يستحي المستبدون أن يتفوّهوا ليل نهار بحديثٍ زائفٍ عن الديمقراطية، يدّعون فيه التعبير عن إرادة الشعوب وهم يزهقونها، وعن روح الناس وهو يخنقها، إنها لعبته المفضلة، حينما يواصل ممارسة اغتصابه الكلام. وعلى الرغم من ذلك، يفرض على الجميع أن يتحدّثوا عن رشده، وعن حكمته، وهو يمثل كل طغيانٍ يفرض فيه استراتيجيات التخويف والترويع والإذعان.
تحدث عن أربعة أمور، وهو في حقيقة الأمر يقوم على إزهاقها وانتهاكها ليل نهار، في 
ممارسات متراكمة وفاضحة. ومع ذلك، من قبيل استخفافه وإعلانه، يقوم بالحديث عن كل ذلك، غير عابئ بصورة الحقيقة الواضحة وأفعاله الفاضحة التي تتابعه وتلاحقه، تؤكد ممارسته الكذب المستمر، فهل تصدّقون مثلا أن منظومة عبد الفتاح السيسي الانقلابية التي تمارس استبدادا يوميا واضحا وفاضحا تتحدث عن تلك الأمور الأربعة، المتعلقة بالحكم الرشيد وحقوق الإنسان وتمكين الشباب والتنمية المستدامة، إن هذا لشيء عجاب.
حينما يتحدّث هذا الذي يمارس قتل البشر خارج إطار القانون، وبتلفيقات مزرية، وبإعداماتٍ قضائية بالجملة، وبقتل جماعي يمارسه كما يتنفس، وفي مجازر عدة، ارتبطت به وبسياساته، ثم يتحدّث عن الحكم الرشيد، وهو يمارس الطغيان الفاجر والاستبداد البائس، وينبه على كل الآخرين "أن لا يستمعوا إلى أحدٍ غيره"، و"أن لا يصدّقوا الأشرار"، وينادي على عموم الناس لإعطائه تفويضا بالقتل وممارسته، ذلك كله يدّعيه السيسي كما ادّعاه فرعون "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد". إنه، وبفجوره المعهود، مثل كل فرعون مستبد يدّعي الرشاد ويحتكره، ويؤكّد أنه لا يفعل إلا رشدا. ومن هنا كان هذا الرد القرآني المفحم كذبت "وما أمر فرعون برشيد".
أيفهم هذا الرجل ما هو الحكم الرشيد شروطا ومقتضيات، حتى يتحدث عنه أمام دول العالم، ليبشر بنموذجه في الحكم الرشيد؟، الذي يستخف فيه بالنفوس، ويعتقل الناس بلا جريمة، ويطاردهم، ويخنق ويحرق ويقتل خارج إطار القانون ويحرّض القضاء على إعداماتٍ عابثة، وأحكام باطلة، منذ متى يمكن أن تسمّى تلك السياسات التي اعتمدها حكما رشيدا؟ فإن لم تكن كل تلك الممارسات الطاغية إلا تعبيرا عن الحاكم الأحمق الفاشي، فمتى يمكن أن يسمي ذلك الحكم غير الرشيد؟ إنه يبدّد القانون، ولا يعترف بسيادته، ويقوم بكل أمر يتعلق بحبس كل المعلومات عن شعبه، وممارسة الخيانة في بيع أرضه، والتفريط في موارد الوطن، مسمّيا ذلك وطنية، فهل تلك هي الشفافية؟ منذ متى كانت خيانة الأمانة شفافيةً، وهل هذه السياسات التي يقترفها، والجرائم التي يرتكبها كل لحظة يمكن أن تكون في ميزان الحكم الرشيد؟ هذا تزوير للكلمات ومعانيها، واغتصاب لمبانيها وتبديد مغازيها، فترد عليه الكلمات المغتصبة: كذبت وزوّرت وزيفت.
ثم ينتقل في الحديث عن حقوق الإنسان معلنا التزامه بها، مستندا إلى قاعدة دستورية على حد قوله، وهو في حقيقة فعله يبدّد الدستور ليل نهار، يعبث بكلماته، ويتلهى بها، ويجعلها بلا معنى من خلال ممارساته وسياساته، فلم يبق من الدستور إلا كلمات جوفاء، وما بقى من بعده إلا إزهاق النفوس وإراقة الدماء، هكذا يقول المستبد الفاجر إنه يعلم الدنيا ما هي حقوق الانسان. إنها في كل حرف منها تلعنه، لأنه أزهق كل تلك الحقوق التي ترتبط بالإنسان والكيان، وأن إحصائيات بسيطة وتقارير منظمات غير حكومية إنما تؤكد له من كل طريق كذبت وزورت. وببجاحة منقطعة النظير، يتحدث عن تسييس الخطاب وحقوق الإنسان، لا لشيء إلا أن المفوضيات المتعلقة بالحقوق تكشف ستره، وتفضح فعله في انتهاكاته اليومية أبسط حقوق الإنسان، وما يتعلق منها بالحياة، وما يتعلق منها بالتملك، فلا يحترف إلا القتل والمصادرات، ثم يتحدث عن حقوق الإنسان، ويحاول أن ينصب من نفسه طبيب فلاسفة، يتحدث عن معنى الحقوق، وعن الالتزام بها، كذبت وزيفت وزوّرت.
ثم ها هو يتحدث كاذبا بفائض كلام عن تمكين الشباب، مذكرا كاذبا بأنه أعطى الشباب الفرصة 
كاملة في المناصب والإدارات، وعقد للشباب مؤتمرات دولية في كل عام، ظنا منه أن ذلك هو تمكين الشباب، على الرغم من أن هذا ليس إلا ادّعاء كاذبا، لأنه لا يجيد إلا التزوير لحقائق الواقع التي تجعل منه متربّصا بشباب مصر الأطهار والأنقياء، وبكل الشباب الذي شارك في الثورة، حبسهم واعتقلهم، بل وقتلهم واختطفهم اختطافا قسريا، كان ذلك في عرفه وفعله هو تمكين الشباب، مكّنه في السجون والزنازين، بعد أن زلزلوا تلك السلطة الغاصبة في الميادين، بات هؤلاء محل استهدافه بكل سياسات البطش والترويع، محذرا إياهم أنه لن يسمح بالتغيير، مخرجا بعض شبابه الزائف في المؤتمرات، ليصفق له أو يتضاحك معه، إنه التزوير الكبير، فتقول له كل أفعاله ناسفة كل أقواله كذبت وزيفت وزورت.
وها هو، في النهاية، يتحدّث عن تنمية مستدامة، وقد احترف مع هذا الشعب خططا ممنهجة في عملية إفقار وتجويع ممتدة، فلم يكن ذلك إلا استدامة للإفقار والاستدانة، وارتفاعا لغول الأسعار، مطالبا إياهم بالحفاظ على الاستقرار، لأن ذلك يصب في مصلحتهم، فعوم الجنيه المصري مقابل الدولار، وأعدم قيمته، فارتفعت الأسعار، وأورثت كل تلك السياسات جحيما لا يُطاق، يسميه ذلك الأحمق تنمية مستدامة، مثل كل ذلك فائض كلام وممارسات طاغية فاضحة، تمارس إعدام الناس بطرق مختلفة، إعداما بالقنص والرصاص، وإعداما بأحكام باطلة من القضاء، وإعدامهم وجعلهم من المعدمين بإفقار ممنهج، ومحاصرة الشباب وقتلهم وتصفيتهم جسديا، ثم يقول للعالمين مستخفا إن هذا لحكم رشيد، والتزام بحقوق إنسان، وتمكين للشباب وتنمية مستدامة، فترد عليه أفعاله وسياساته وممارساته وجرائمه التي يقترفها كذبت وزيفت وزوّرت.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".