العالم بين ضفتي الأطلسي

العالم بين ضفتي الأطلسي

28 سبتمبر 2018
+ الخط -
على الضفة الغربية من المحيط الأطلسي، وبالضبط في نيويورك، وقف الرئيس الأميركي دونالد ترامب في مواجهة العالم، تباهى بانسحاب بلاده من مجلس أممي لحقوق الإنسان، وحثّ العالم على الانعزال نحو القوميات والوطنيات الضيقة، توعّد "النظام الاستبدادي" في فنزويلا، وتوعّد "النظام الراعي للإرهاب العالمي" في طهران، وأطاح بـ"جشع" الصين، وحتى أنه غمز من قناة الحليفة ألمانيا التي "تتغذّى" بالغاز الروسي. ترامب الطارئ على السياسة تباهى بانعزاليته، وضع مصالح "أميركا أولاً"، وحدّد علاقاته مع العالم من منظور الخدمات التي تُسديها الدول للولايات المتحدة. أثارت نبرة الرئيس الأميركي الذي توجه إلى العالم من منبر المنظمة الدولية باستعلاء وعنجهية الضحكات الساخرة بين ممثلي الأمم. وحده الكورس الأميركي، نيكي هيلي، وجون بولتون، ومايك بومبيو، كانوا فرحين بما نضح به رئيسهم من صديد. تحدّث الرئيس الجشع عن المكاسب والمغانم، وصمت عن الاحتلال الإسرائيلي  العنصري  وجرائمه. سكت عن معاناة اليمن وأطفاله المذبوحين بحد الأسلحة الأميركية، ولم يكترث بالمجاعات والأمراض التي تفتك بملايين الأطفال في العالم. لم يتحدّث سليل الأسرة المهاجرة عن معاناة الملايين من المهاجرين واللاجئين الذين أوصد أبواب أميركا في وجوهم.
في الليلة نفسها، وعلى الجانب الشرقي من الأطلسي، وبالضبط في مدينة ليفربول الساحلية، كان حزب العمال البريطاني يلتئم في مؤتمره العام السنوي، لتعزيز الثقة بقيادة جيرمي كوربين، وإعطائه دفعة قوية في مواجهة الحملة الشرسة التي يقودها ضده اللوبي الصهيوني. تفيد الصور والأخبار الواردة من هناك بأن المؤتمر كان انتصاراً مميزاً لفلسطين، ورايتها التي رفرفت في جنبات المؤتمر وقاعاته. فتح أعضاء المؤتمر وأنصاره المواجهة بلا مواربة مع اللوبي المؤيد لإسرائيل، عندما أعلنت مجموعة من أنصار فلسطين في الحزب عن تشكيلٍ جديد داخل الحزب باسم "ارفعوا الصوت لأجل فلسطين". تحدّث نواب الحزب وقياداته، مؤكّدين على أن صوت فلسطين في الحزب لن يتم إسكاته بفزاعة العداء للسامية. كان علم فلسطين يرفرف عالياً في أيدي الحاضرين الذين انخرطوا في نقاشاتٍ حول فتح تحقيق دولي مستقل في استخدام إسرائيل القوة ضد المتظاهرين في غزة، وتجميد مبيعات السلاح لدولة الاحتلال إلى حين انتهاء التحقيق. كما بحث المؤتمرون الإنهاء الفوري، وغير المشروط، للحصار المفروض على غزة، مع رفض محاولات إعادة كتابة تاريخ الشعب الفلسطيني، وشطب ضحايا حرب عام 1948 الذين أخرجوا أو هربوا من ديارهم، بسبب الحرب وتداعياتها. قال كوربين إن حكومة العمال ستعترف بالدولة الفلسطينية مباشرة، وستدفع كل أصدقائها في العالم لتتخذ القرار نفسه. انتقد اعتراف إدارة دونالد ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية، داعيا إلى "سلام عادل ودائم" مع إسرائيل، لا يراه ممكنا "بوجود المستوطنات، وانتهاكات حقوق الإنسان، وتجاهل إسرائيل للقانون الدولي واستحقاقاته". واعترف كوربين، بكل شجاعة، بتحمل بريطانيا مسؤولية تاريخية تجاه الشعب الفلسطيني.
في ليلة واحدة، تردّد على ضفتي المحيط الأطلسي صوتان، أحدهم مراهق سياسي، عنصري انعزالي يميني، خاطب العالم بلغة الغطرسة الاستعمارية، أما الآخر فكان صوت جيرمي كوربين الذي قضى عمره مدافعاً عن الفقراء والمضطهدين، مناضلاً لتحقيق العدالة الاجتماعية والمساواة. نعرف من تاريخ كوربين نضاله العنيد ضد النظام العنصري في جنوب أفريقيا، وقيادته عام 1985 حملة عالمية لمحاكمة ديكتاتور تشيلي السابق الجنرال بينوشيه. أضف إلى ذلك أن الرجل معروف بنظافة اليد، يخلو تاريخه من أي مغامراتٍ نسائية فاضحة، يقطن في منزل متواضع، ويتنقل في شوارع لندن بدرّاجته الهوائية. وفي المقابل، نعرف أن الرئيس الأميركي الذي لم يتظاهر يوماً مع "رعاع" الشعب، لانشغاله، منذ مراهقته البيولوجية، في مطاردة الحسناوات، وبناء إمبراطورية عقارية يتنقل بين أرجائها بطائراته الخاصة.
ما بين دونالد ترامب، سمسار العقارات الطارئ على السياسة، وجيرمي كوربين، المناضل والسياسي العتيد، تلاطمت أمواج الأطلسي، وكأنها تُنذر العالم بفصل شتاءٍ قارص.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.