المؤامرة الكونية بالبصل والمكسّرات

المؤامرة الكونية بالبصل والمكسّرات

27 سبتمبر 2018
+ الخط -
أقمتُ في إسطنبول، في الهزيع الأول من النزوح السوري الكبير، هرباً من الوحش الذي انفلت من عقاله، مع كرديّ اسمه آهين (من التأوه شوقاً إلى دولة)، وكان اسمه الأول مسعود، قبل حصوله على الجنسية التركية. الشخصية الكردية تتقلب بين بهجة الفرح الصاخب ووحشة الحزن الخالد.
كان يعود ليلاً، فيجدني قد طبخت طعاماً واحداً، لم يتغيّر حولاً كاملاً، وهو صدر دجاج، مع نوعٍ من أنواع الخضرة. تقلّب الدجاح بين حلاوة الجزر، وحموضة الطماطم، ومرق البطاطا، وذاق ما لم يذقه الشعب السوري من تعدّدية سياسية. ظل الدجاج رئيساً للمائدة مع البصل إلى الأبد، من دون المأكولات الأخرى، لسهولة طبخه، ورخصه، وخلّوه من أثقال الدسم، وأغلال الشحوم. سألني آهين عن اسم هذا الطعام الذي كنت أعدُّه على طريقة عادل إمام في مسلسل "أحلام الفتى الطاير"، فأطلقت عليه اسماً من بندقية المعاني الإعلامية: "المؤامرة الكونية". كان آهين يتناول لقمةً من المؤامرة الكونية، فيزنها في فمه، بحاسّة الذوق وموازين الشهية، ثم يطرق بمطرقةٍ خفيةٍ على طبل الرضى، ويحكم لها بالبراءة: لها "ونسة"، شكراً خال.
تردّد على مسكننا فوق السطوح نازحون كثر، كلهم أكراد، لهم إمتاع و"ونسة"، باعوا حليّ زوجاتهم، مهراً لأوروبا الشقراء، وكانوا جميعاً أقارب آهين، والقرابة شركة أرحام وأحزان، أسماؤهم كانت حزينةً، مثل اسمه؛ كدر، وهو اسم عربي، وغمكين، وهو الغمُّ العربي موصولاً بلاحقة كردية، وحُزني، وهوار أي النجدة.
سألت أهين عن سبب نزوحه المبكّر من القامشلي، فقال: ليس لهم ونسة، يقصد المحتلين الجدد من حزب البعث الكردي. وكان يعود فيجدني أتابع قناة الجزيرة، في وقت بث برنامج "ساعة مصرية" الذي كان يرعى مصارعات فكرية وسياسية حرّة، بصواعق النقاش، وشهب العقول، وقد ختم البرنامج بالشمع الأحمر بعد احتجاجاتٍ مصريةٍ وسعودية. وكان يسألني عن سبب ولعي بمتابعة أخبار مصر، فأبرّر له بأنَّ مصر هي عاصمة العرب والمنطقة، فإن أفلحَتْ، نجَتِ المنطقة، وإن سقطتْ، غرقتِ المنطقة كلها. جاء في رسالة عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص: "قد أعطى الله أهلها عدداً و جلداً و قوةً فى البر والبحر". شاهدَ معي بعضاً من أخبار السيسي، فشغف به، فقال: والله له ونسة. كانت مصر قادرةً على تمصير كل من دخلها، ضيفاً، أو غازياً، كما يقول جمال حمدان، وها هي تمصّره "عن بعد".
طلب صديقنا الجديد الوافد نوري منه أن يصحبه إلى سهرة. وكان نوري قد اصطاد عروستي برّ تركيتين، فآهين يجيد التركية أحسن منه، وهو أدرى منه بشعاب إسطنبول. عادا مختصميْن. أفسد آهين السهرة، وخسر نوري عروستي البرّ اللتيْن انزلقتا في البرّ سرباً. سأله نوري محتجاً عن سبب إفساده خطة الإيقاع بالصبيتين، فقال أهين: ليس لهما ونسة، أنت الفريسة، يا أحمق، الصبيتان تريدان امتصاص الليرات من جيوبك.
صرت أرسل إلى آهين، فيديوهات لها ونسة من غرفتي، فهو لا يحبُّ القراءة، ويرسل لي فيديوهات لها ونسة من غرفته، وقال لي عن ترامب، وعن ولي عهد عربي له اسم فضائية مسليّة: لهما ونسة. نحن نعيش ليالي الأنس في الخريف العربي، قال: خال أرجوك، لكل شيء ونسة، مثل المؤامرة الكونية بالبصل، أرسله إلي.
اتصل بي، أمس، يسأل سؤالاً لم أستطع الإجابة عنه، وهو كيف تتغطّى طائرة إسرائيلية بطائرة روسية من البرد في السماء؟ فقلت له: لست خبيراً حربياً، لا في البرّ، ولا في الجو، ولا في شؤون تثبيت الاحتلال بمسامير إس 300، لكني فهمت أن الطائرة الإسرائيلية تعمّدتْ الخروج لحظة طيران الطائرة الروسية، فحدث ما حدث، و"شبّه لهم"، فقال: والله حتى بوتين ونتنياهو صار لهما ونسة.
شكرني على تذكّره بعد غياب، فالأحداث تذهل كل مرضعةٍ عما أرضعت. قلت له إنه مخزَّن على "الهارد وير"، وقال لي إنه نادم، ويبكي وطنه الثاني، تركيا الجميلة، وأنفق كل مدّخراته في ألمانيا، لأن راتب الإعانة حصوة صغيرة لا تسند جرّةً كبيرة مثل جرّته. وكنت أسمع صوت مضغ الطعام، وهو يتحدّث معي، فزان بلسانه لقمة، كما كان يفعل مع المؤامرة الكونية، وقلّبها على حليمات الذوق، وقال بندم الفتى الطائر، وقد طُعنتْ أحلامَه: خال، ألمانيا ليست لها ونسة.
683A43FF-D735-4EBA-B187-3AC9E42FAE32
أحمد عمر

كائن يظنُّ أن أصله طير، من برج الميزان حسب التقديرات وطلاسم الكفّ ووحل الفنجان.. في بكرة الصبا أوعشية الشباب، انتبه إلى أنّ كفة الميزان مثقوبة، وأنّ فريق شطرنج الحكومة "أصحاب فيل"، وأنّ فريق الشعب أعزل، ولم يكن لديه سوى القلم الذي به أقسم" فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا..."