إدغار موران.. آخر الفلاسفة الحكماء

إدغار موران.. آخر الفلاسفة الحكماء

25 سبتمبر 2018

إدغار موران في مهرجان مراكش السينمائي (4/12/2012/فرانس برس)

+ الخط -
ليست فقط هي سنوات عمره المديدة التي نرجو أن تطول بعد أكثر (من مواليد 1921، باريس)، بل هي خاصة سعة اهتماماته، وأهمية مؤلفاته، وأحقية مواقفه، واستمرارية دفاعه عن القضايا العادلة، ما تجعل الكتابة عنه، في هذه العجالة، تمرينا شبه مستحيل، يشبه محاولة الإحاطة بكون. ومع ذلك، فإن هدف هذه المقالة المتواضعة، هو التذكير، عربيا، به، للاسترشاد بفكره واستحضاره دوما، هو الذي أنار، بأعماله ومؤلفاته، أكثر من جانبٍ في عالمنا الحالي.
إدغار موران، الفيلسوف والمفكر وعالم الاجتماع الفرنسي، صاحب نظرية التعقيد والفكر المركّب، هو من المثقفين العالميين القلائل الذين ما زال بالإمكان إطلاق صفة "الالتزام" عليهم، بالمعنى الذي كان عليه جان بول سارتر يوما، وإنما متخلّصا من تشبث الأخير بمواقفه الإيديولوجية، والثبات عليها مهما كان، فموران لم يتوان يوما عن اتخاذ مواقف صريحة من معظم القضايا المطروحة، ساعيا إلى فهم تعقيداتها، لا إلى إثبات آرائه بشأنها. فهو قد انخرط في شبابه في المقاومة، شيوعيا، لكنه ترك الحزب اعتراضا على فظائع الستالينية. ناضل ضد معاداة السامية، وأيّد استقلال الجزائر، وكان من القلائل الذين ناصروا القضية الفلسطينية وتعاطفوا معها، ولم يُهِبه أن يُتّهم، هو اليهودي، بمعاداة السامية، أو أن يُقاد إلى المحكمة إثر مقال كتبه عن إسرائيل، أو أن يتم التعتيم كلية على كتابه "العالم الحديث والقضية اليهودية"، المنشور لاحقا (2006)، من كبريات الصحف والمجلات في فرنسا، بسبب مواقفه.
لقد كان إدغار موران سبّاقا في تحسّس القادم وقراءة الحاضر واستشراف المستقبل، فكتب قبل الآخرين، لا بل قبل الأوان، عن أوروبا، وقضايا التربية والتعليم، والأضرار التي تتعرّض لها البيئة، ومواضيع أخرى كثيرة جعلت من هذا الفيلسوف والباحث الذي اشتهر بنزعته الإنسانية، وسعة علمه، وقدرته على التعاطي مع التضاد والتناقض، رقما صعبا يستحيل تحجيمه أو تفاديه.
هذا وتنبغي الإشارة إلى أن موران قلّما عمل على بناء نظرياتٍ، إذ كانت الأولوية بالنسبة إليه هي تفسير الواقع. معه، اختلفت النظرة إلى الأزمات، فهي ليست قطيعةً، بل التعبير عن توتراتٍ خفية كامنة. والفوضى ليست ما يزعزع توازن الواقع، وإنما هي ما يمنحه الحياة. درس موران الحاضر، وما يسيّره، وما يعيقه، فكتب "روح العصر"، حيث شرح كيفية اجتياح الصناعات الثقافية للمخيّلة، في مختلف القارّات، منهيا كتابه بفصل فرعيّ، حمل العنوان التالي "الثقافة الكونية"! كنّا يومها في العام 1962، ولم تكن عبارة "القرية الكونية" (للأميركي ماكلوهان في كتابه "المجرّة غوتنبيرغ" 1962) قد وجدت طريقها بعدُ إلى الفرنسية (ترجم عام 1967).
وفي "المنهج"، وهو مؤلف ضخم (ستة أجزاء)، ومن أهم أعماله (1977-2004)، يعبّر موران، بشكل واضح، عن المهمّة التي اختارها لنفسه: إقامة صلاتٍ بين ما لا يتواصل، ويتم فصله، أي بين قارات المعرفة الأربع التي تشكّل أسس الحضارة الأوروبية: الطبيعة (الفيزياء)، الحياة (بيولوجيا)، الأفكار (المعارف)، والبشرية (أنثروبولوجيا). فمن خلال العمل عليها معا، أو تشغيلها معا، يسعى "المنهج" إلى توليد نوعٍ جديد من المعرفة، متفلّتٍ من كل أشكال التأطير الخاضعة لنظم مقفلة، ووضع نموذجٍ يقوم على التعقيد والتركيب، الجمع والتفريق.
لإدغار موران صفحة ناشطة على "تويتر"، تتجدّد تعليقاتُه عليها بانتظام. لا أدري إن كان هو من يهتم بها مباشرة، ولكني لن أستغرب ألبتة إذا اكتشفت يوما أنه من يفعل. عليها كتب عشية تحرير هذه المقالة: "يا لهذه الحقبة المتقهقرة نفسيا اجتماعيا وأخلاقيا، ضمن تطوّر علمي- تقني رائع"..
له أعمال مترجمة إلى العربية لا بد من اكتشافها، أو إعادة اكتشافها، لأنه ربما من آخر الفلاسفة الحكماء.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"