مع خيري منصور

مع خيري منصور

24 سبتمبر 2018
+ الخط -
كانت الجامعة الأردنية، في منتصف تسعينيات القرن العشرين، تودّع تاريخها السياسي الزاخر باليسار والتنظيمات الفلسطينية، مستقبلةً تاريخاً جديداً من الصمت والضحالة الفكرية والسياسية، يتوزّعه تنظيم الإخوان المسلمين والوسط المحافظ غير المؤدلج، وكلاهما غير معنيٍّ بالتثقيف الفكري والحوار السياسي العميق.
قال لي زميل مقرّب في كلية الهندسة: "هل قرأت مقال خيري منصور اليوم؟". كان ثمة واجب فردي علينا، نحن الخائبين من سلوك الإخوان المسلمين القائم على استثمار العاطفة الدينية، والبعيدين عن الوسط المحافظ بما يلوكه من كلام سطحي، أن نسعى في تثقيف أنفسنا، وأن نجد لتفكيرنا، ونحن الذين لا حول لنا من سندٍ تنظيمي ولا قوة، مكاناً تحت الشمس، نناطح فيه قوى منظمةً تتوزع مقاعد مجلس الطلبة، وأفئدة الشباب والشابات الذين تفتّح وعيهم على الحياة العامة حديثاً، فأرادوا من انحيازاتهم خدمة الإسلام أو خدمة الوطن، في مواجهة من يُفترض أنهم المتآمرون عليهما.
وكانت مفاوضات السلام بين العرب والكيان الصهيوني، وما أفضت إليه من توقيع اتفاق أوسلو، عام 1993، ومعاهدة وادي عربة، عام 1994، القضية الأكثر حضوراً في الفضاء السياسي يومها.
وجدنا في مقالات خيري منصور، وهو المثقف الموسوعي صاحب اللغة الساحرة، زاداً يومياً مميّزاً، فرحنا نواظب على قراءة مقاله اليومي المنشور في الصفحة الأولى من صحيفة الدستور. كانت تلك المقالات منبعاً مميزاً للمعرفة، جنباً إلى جنب مع قراءة هشام شرابي، وقصائد محمود درويش، رحمهم الله، ثم الترشّح للانتخابات الطلابية مرتين، في حملات انتخابية قالت، على حد تقديرنا، شيئاً كثيراً من الأفكار، واجتاحت الصمت الفكري الذي كان يرعاه التياران، الإخواني والمحافظ، وقد خسرناهما بطبيعة الحال، لكن بنتائج مقبولة نسبياً، في مواجهة اعتقادٍ كان سائداً بأن التصويت للإخوان المسلمين هو تصويت لخالد بن الوليد أو لصلاح الدين الأيوبي، أو هو أمانةٌ يُسأل عنها المرء يوم القيامة!

كان لاسم خيري منصور، وسيبقى دائماً، هالة كبرى. كتب يوماً مقالاً ظلّ محفوراً في ذاكرتي، يتساءل فيه عن جدوى كل المعرفة التي توفر عليها، وكل الكتب التي قرأها، من دون أن يستثمرها في موقعٍ تنفيذيٍّ يحقّق أثراً ملموساً في الحياة العامة، وفي واقع السياسة.
دلفتُ، في أحد تلك الأيام، بحماسٍ شديد، وأنا في العشرين من عمري، باب صحيفة الدستور، وسألت الرجل الجالس عند الاستقبال إن كان في مقدوري مقابلة الأستاذ خيري منصور. رد الرجل ببرود أن الأستاذ ليس موجوداً، لأنه لا يحضر إلا في الليل. ربما لم يلمس حماسي، ولا ارتباكي عند ذكر اسم خيري منصور. المهم، تركت عنده مقالاً كتبتُه في الشأن الفلسطيني، نشرته "الدستور" بعد أيام، فكان أول مقال أنشره في صحيفة يومية. رويت ذلك لزميلي في الجامعة، فقال إنني ربما كنت محظوظاً بعدم لقاء الرجل، فهو على الأغلب سيكون شخصاً غير ودود، يتحدّث من طابقٍ عاج، كيف لا وهو خيري منصور.
مرّت الأيام والسنوات سريعاً، وجرت مياه كثيرة في النهر. توليت أنا، العبد الفقير، موقعاً تنفيذياً في الشأن الثقافي في عمّان، وتذكّرت دائماً ذلك المقال الذي تساءل فيه خيري منصور عن جدوى المعرفة والثقافة من دون موقع تنفيذي، وقد أدركت أن ما اشتمل عليه المقال كان ذا معنى عميق، فلا يمكنك أن تضع أفكارك موضع التنفيذ من دون موقعٍ كذاك. هكذا استعملت زادي من المعرفة في أفكار ومشروعات كثيرة، ومقال خيري منصور في ذهني دائماً.
لم أسع إلى مجالسة خيري منصور، بعد أن مرت سنوات طويلة، إذ بقيت متوجّساً من تكبّره المفترض. يوماً ما، قبل سنتين تقريباً، كنت على موعد تقليدي مع الصديقة القاصة بسمة النسور (وزيرة الثقافة الأردنية حاليا)، في أحد مقاهي جبل اللويبدة في عمّان، ذي الطابع الثقافي، ضمن مواعيدنا الكثيرة التي يأخذنا الحديث فيها إلى السياسة والثقافة والناس والحياة الشخصية، وإلى كل شيء تقريباً. قالت لي بسمة لما وصلت: "سيحضر خيري منصور بعد قليل. هل تعرفه؟". أصابني التجمّد إزاء سؤالها، ومعه قلق كثير بشأن اللقاء مع الرجل. حضر خيري منصور بعد قليل. وقفت لمصافحته بخجل شديد، فكان في قمّة الانطلاق والود والمرح، وراح يلقي النكات في كل اتجاه، بصوته المخملي وحضوره الطاغي، ويشير بيديه هنا وهناك، ويروي قصصاً عن الحياة والناس والسياسة.
يا أستاذ خيري، ليتني ما توجسّت من شخصيتك يوماً.. يرحمك الله.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.