التشظّي الحزبي في تونس إلى أين؟

التشظّي الحزبي في تونس إلى أين؟

24 سبتمبر 2018
+ الخط -
تتوالى الأنباء عن الاستقالات والانشقاقات والصراعات في الأحزاب السياسية التونسية بشكل متسارع، فبعد أن شغلت صراعات الأجنحة في حزب نداء تونس الساحة الإعلامية، بدايةً من إعلان هيئته السياسية عن تجميد عضوية القيادي في الحزب ورئيس الحكومة، يوسف الشاهد الذي بادر إلى تشكيل ما أطلق عليه "الائتلاف الوطني"، وهي كتلة برلمانية انشقّت عن كتلة "نداء تونس"، قد تتحول لاحقا إلى تنظيم سياسي مستقل، يضاف إلى قائمة الأحزاب الكثيرة في البلاد، ومرورا بحالة الجدل الحاد الذي تشهده أروقة الجبهة الشعبية، في ظل الخلاف المعلن بين أهم مكونين لها، حزب العمال وحركة الوطنيين الديمقراطيين، على خلفية التضارب في تقدير المشهد السياسي، وأولويات المرحلة والتنازع على زعامة الجبهة التي يستأثر بها حمّة الهمامي منذ التأسيس، بعد ذلك كله، عرف حزب حراك تونس الإرادة استقالةً جماعية لقيادات وناشطين كثيرين ممن ينتقدون الخيارات السياسية التي ينتهجها رئيس الحزب ومؤسسه، المنصف المرزوقي، ولم يكن هذا هو الانشقاق الأول، ولا الأهم الذي عرفه هذا الحزب، منذ كان يحمل اسم "المؤتمر من أجل الجمهورية"، عندما تشظّى إلى ثلاثة مكونات حزبية مختلفة برؤى متقاربة، ولكن بزعامات وشعارات متصارعة.
لم يعرف المشهد الحزبي التونسي الاستقرار منذ بداية مسار الانتقال الديمقراطي في البلاد. وبغض النظر عن حالة التكاثر السريع للأحزاب، إثر سقوط نظام الحزب الواحد سنة 2011، وهي ظاهرة طبيعية فرضتها حالة الانغلاق السياسي التي كانت تعرفها البلاد، وغياب تقليد حزبي مؤسسي لقوى ما تسمّى المعارضة زمن الاستبداد، فإن اليوم، وبعد مرور سنوات سبع، وإجراء أربعة انتخابات ديمقراطية، من المعقول طرح السؤال عن أسباب هذا التشرذم الحزبي وفشل الطبقة السياسية في إيجاد آليات عقلانية لإدارة الخلافات بينها، والحفاظ على تماسكها في الوقت نفسه، وإذا استثنينا حزب النهضة الذي حافظ على بنيته التنظيمية، لأسباب تتعلق بنمط تشكله، فإن الأحزاب الناشئة في مرحلة ما بعد الثورة دخلت إلى مسارات الفوضى، بشكلٍ يقارب العبث واللامعقول.

نظريا، تشكّل الأحزاب مؤسسة أساسية في الحياة الديمقراطية، بوصفها تنظيماتٍ تمنح العمل السياسي شكله الأكثر عقلانيةً، وقدرة على التعبير عن مطالب المواطنين في ظل الدولة الحديثة، فالأحزاب بصورتها الحداثية نشأت لتحلّ محلّ التعبيرات القديمة القائمة على الاحتماء بالعشيرة أو القبيلة أو الطائفة، ولتتعامل مع الناس بصفتهم المواطنية، وهي تجمع بين الأفراد على أساس الانتماء لتصور سياسي/ أيديولوجي محدّد، يساعد على تأطير جماهير الناس من أجل التعبير عن تصوراتهم، وتحويلها إلى برامج فعلية، قابلة للتنفيذ عند الوصول إلى الحكم عبر الآليات الديمقراطية المعروفة، الانتخابات أولا وأخيرا.
والأحزاب السياسية، في مهامها المركزية، تقوم بجملة من الواجبات الأساسية، والتي يمكن اختصارها في نقاطٍ، أهمها تأطير المواطنين، وإيجاد منفذ للفاعلين السياسيين للعمل والتأثير، وإعداد الكوادر القادرة على إدارة الشأن العام، وهي، من الناحية التنظيمية، الأطر القادرة على اجتذاب العناصر النوعية، ومنحها الفرصة للقيادة، وتصدّر العمل العام.
أما واقعيا، فقد فشلت الأحزاب السياسية التونسية في بناء مؤسساتٍ، أو التحول إلى رافعة لتطوير المشهد السياسي، ودعم التحول الديمقراطي، وأصبحت حلبة للصراع، ومدخلا للانشقاقات المتتالية التي لا يمكن تبريرها، مهما كانت الأسباب التي يتذرّع بها أصحابها. فالأحزاب ذات الإرث التاريخي زمن الاستبداد، مثل الديمقراطي التقدمي والتكتل من أجل العمل والحريات والمؤتمر من أجل الجمهورية، اندثرت وفشلت في الاستمرار، وعجزت بدائلها عن
بناء ذاتها، والتحول إلى قوى فاعلة في المشهد السياسي، وما يثير الانتباه في نمط سيرورة الأحزاب التونسية أن لعنة الصراعات والتصدّعات لم تصب أحزاب المعارضة فحسب، بل لحقت أحزاب السلطة إلى الحد الذي جعل حزبا، مثل نداء تونس، الفائز بانتخابات 2014، والمستأثر بالرئاسات الثلاث، يتشظى إلى ثلاثة أحزاب، وينفجر من داخله إلى أكثر من شق، يتزعم بعضها رئيس الحكومة، والآخر يقف وراءه نجل رئيس الجمهورية، في وضعية غير سويّة، جعلت المشهد السياسي يتأزم، وأصاب الحكومات المتوالية بالعجز والفشل.
أزمة الأحزاب السياسية التونسية بعد الثورة أنها لم تصل بعد إلى درجة النضج، وفهم معنى الحزب السياسي في بنيته العميقة، باعتباره، وبالدرجة الأولى، مدرسة للتربية السياسية للمواطن، ينخرط فيها، ليتدرّب على مساهمته في الشأن العام، وعلى ممارسة حقوقه السياسية الأساسية. ولكن تحقيق هذه المهمة، في صورتها المثلى، ليس أمرا يسيرا، في ظل حالة الاضطراب التنظيمي الذي تشهده غالبية الأحزاب السياسية، وحالات الانشقاق التي تشهدها. بالإضافة إلى ما تعرفه من ارتحالٍ لناشطيها، بصورةٍ تذكّر بانتقالات لاعبي كرة القدم، وما يزيد المشهد قتامةً انبناء أحزابٍ كثيرة على منطق الزعيم الأوحد، ما يجعلها أشبه بالشتات الذي تجمعه المصلحة الآنية أكثر مما هي تنظيم ذو بنية واضحة وأهداف محدّدة.
ويظل الأمل قائما في إمكانية إعادة تشكل المشهد الحزبي التونسي، ومجاوزته مشكلاته تنظيميا وأيديولوجيا، حتى يساهم بشكل أكبر في استقرار العملية السياسية والتقدّم صُعُدا في بناء العملية الديمقراطية في البلاد، وهذا أمر يفرضه الواقع الجديد، ومهمة عاجلة على عاتق الناشطين الحزبيين، لعمري لا تقبل التأجيل.
B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.