تحية إلى خيري منصور

تحية إلى خيري منصور

22 سبتمبر 2018
+ الخط -
غاب في عمّان الثلاثاء، 18 سبتمبر/ أيلول الحالي، خيري منصور، أحد أبرز الكتّاب العرب، ومن أكثرهم إخلاصاً لمهنة الكتابة، وانقطاعاً إليها، ومواظبة عليها. وقد أورثته هذه المهنة الشريفة صيتاً مستحقاً، وطيّرت اسمه إلى الآفاق، وصنعت له جمهورا عريضا من قارئين شغوفين. وعلى الرغم من أن منصور اتخذ الصحافة اليومية والأسبوعية منبرا لكتاباته، إلا أنه نجح في النأي بقلمه عن الأداء الصحافي المعهود، واحتفظ بأسلبة أدبية متينة وجزلة، هي أقرب إلى لغة الكتب والدوريات الثقافية المتخصصة. كانت الصحافة مسرح كتاباته، بدون أن تترك الصحف السيّارة التي تحتضن مقالاته لا كبير أثرٍ ولا ضعيفه في صنعته الكتابية. ولعله قد انتهج في ذلك منهج أدباء "عصر النهضة" العرب في مصر ولبنان، كطه حسين وعباس العقاد وأمين نخلة ورامز سركيس، وسواهم الذين أقاموا على أساليبهم الكتابية، ولم يبرحوها لدى النشر في صحف يومية. وقد أضاف خيري منصور مسحةً حداثية، ورشاقةً في العبارة، وومضاتٍ من التجديد مع التخفّف من الإنشاء، والنزوع إلى وضع قبساتٍ وإحالاتٍ إلى أدباء ومفكرين عرب وغربيين، قدامى ومحدثين. ما جعل مقالاته تبدو في أنظار المتابعين امتدادا واستئنافا لكتابةٍ تتاخم الحداثة، وتحتفظ بعناصر النثر العربي، ولا تنقطع عنها، بل تضيف إليها، بالعبور إلى منطقة الحداثة، ولكن من دون الذهاب بعيدا، ومع التمتّع برواء العبارة وسلاسة السبك، وبلمحات من ذكاء القلب، ومكر العاطفة والطرافة المتأملة.
وإذ استهلّ خيري منصور (73 عاما) مسيرته محرّراً ثقافياً في مجلة الأقلام العراقية، وكاتبا في ملاحق ثقافية لصحف عراقية في عقدي السبعينيات والثمانينيات، فقد قادته الظروف، بعد الاجتياح الأميركي للعراق، إلى الانتقال والعودة إلى الأردن، حيث أتيحت له، في مقتبل 
التسعينيات، فرصة العمل كاتباً في صحيفة الدستور اليومية، بدعوةٍ من رئيس تحريرها، محمود الشريف، ثم بأن يكتب كل يوم، بعد أن استشعر الشريف موهبته في الكتابة. وقد استجاب لهذا "التحدّي الذهبي" بكتابة زاويةٍ تحت عنوانٍ مألوف شديد الألفة، وكثير الاستعمال، وهو "خاطرة". ولم تلبث الزاوية أن انتقلت من الصفحة الأخيرة (ليست الأخيرة في الأهمية، بل تكاد تكون في المرتبة الثانية..) إلى الصفحة الأولى، وكانت من المرّات النادرة التي تتّسع فيها الصفحة الأولى لزاويةٍ يوميةٍ، يكتبها كاتب "جديد"، شبه مجهول لعامّة القرّاء.
مذّاك، انعطفت مسيرة خيري منصور، إذ بات كاتبا منتظما ومحترفا، ولم تلبث صحفٌ عربيةٌ أن اجتذبته إلى الكتابة فيها، وقد أجيز له ذلك من مقرّ عمله، بعدما تبيّن أن كتابته في منابر أخرى لا تتم على حساب زاويته التي ينتظم في كتابتها محتفظةً بالسويّة نفسها. هكذا وجد، من دون أن يقصد، وبغير أن يرتضي ذلك في دخيلته، وجد نفسه جندياً نشطاً ومعطاءً من جنود "صاحبة الجلالة". وهو آخر ما كان يتوقعه لمستقبل أيامه، فقد كان من رهط شعراء ونقاد تتمحور جل اهتماماتهم حول الشعر والشعراء، ثم الأدب بعامة، ومدارس النقد، مع نزعاتٍ فكريةٍ غذّتها مصادر مختلفة، من أهمها مجلة الآداب، البيروتية، ومطبوعاتها. ولم تُعرف عنه ميول إعلامية، ولا حتى مواظبته على قراءة الصحف، أو الانشغال بما تنشره عدا النصوص الإبداعية والمقالات الأدبية. وبدا أمام ذات نفسه كمن يُستدرج إلى التخلّي عن روحه الإبداعية، والتفريط بها فداءً لصحافةٍ يومية، لا تكفّ مطابعها عن الدوران، والتهام مزيد من جهد العرق والحبر والمكابدة. وإزاء ذلك، صمد خيري منصور، لم يتحول صحافيا، ولا حتى كاتبا صحافيا، بل احتفظ بسمته كاتباً يكتب في الصحف، بلغةٍ منقطعة عن القاموس الصحافي، وبمتابعاتٍ لا تُلقي بالاً إلى ما تقذفه وكالات الأنباء من أخبار وتقارير لا تتوقف.
وقد دارت اهتمامات مقالات منصور حول النهضة والنهوض الحضاري وجدل المفاهيم، ومقارعة التخلف والأمية بمختلف أشكالها، والأمراض الاجتماعية المزمنة والناشئة، وتناقضات الشخصية العربية، وتزييف الوعي، والصمود أمام زحف الغرب واجتياحه، والتحذير مما تسوّقه الميديا من سلع مغشوشة لسياسيين ومثقفين، وكان بارعا في نحت مصطلحاتٍ جديدة، متمتّعا بنزعةٍ هجائيةٍ هجوميةٍ، لا تشمل أحداً باسمه، أو ما يدلّ عليه بقرينةٍ واضحة.
وإذ نأى بقلمه عن الأداء الصحافي، محتفظا بلغةٍ أدبية صافية رقراقة، فقد وفّر لنفسه، بموهبته الغنية، وبجهدٍ شاق دؤوب، تمايزاً عن بقية الكتاب من معلقين ومحللين ومؤرخين وتربويين وسواهم. ولم تكن مقالاته تكتم النفور من الصحافة، ومن كتاباتها "المعلّبة والمسلوقة"، وتسويقها لـ"أشباه وأنصاف مثقفين".
وبحكم صداقةٍ وثيقةٍ ربطت كاتب هذه الكلمات بالعزيز خيري، فقد تمرأت حياته أمام صاحبها
 كمن وقع في مصيدة أو شرك، بعد أن أصبحت الكتابة مهنته التي لا مهنة له سواها، إذ أورثته هذه المهنة شقاءً من نوع فريد، فقد سلبت منه، وهو الشاعر، شيئا فشيئا، جزءاً غير يسير من طاقته الشعرية التي تتسّرب إلى نحو سبعين مقالاً يكتبها شهريا، وجعلت لاقطه الذهني متأهّبا، على الدوام، لالتقاط فكرة للمقال الذي يتهيأ لكتابته بعد ساعات، وإثر مقال "سابق" كتبه قبل سويعات! وقد انعكس هذا على مزاجه الذي أخذ ينحو نحو التوتّر والنقمة على مختلف مظاهر الحياة من حوله هنا وهناك. ولم يتوقف الأمر عند ذاك، إذ تنبه لمغبّة استغراقه وغرقه في الكتابة اليومية، واجتهد في توجيه نفسه وقلمه نحو كتابة مؤلفاتٍ، وقد وضعها، من أهمها "الاستشراق والوعي السالب" و"ثنائية الحياة والكتابة" و"أبواب ومرايا" و"تجارب في القراءة".
وبينما كان للصحافة فضل تقديمه إلى قرّاء العربية، وبصورة لائقة تطمح إليها جمهرة كاتبين، إلا أن هذه المهنة قد "أكلته" في نهاية المطاف، وهو ما أورثه شعورا بـ "الكمد"، فقد وجد نفسه، عبر هذه المهنة، وقد فقدها في الوقت ذاته. وتضافر ذلك مع مشاعر الإحباط إزاء ما آلت إليه أحوال العرب من انخساف واحتراب، دولاً ومجتمعات. وما صارت إليه الثقافة من تسليع وتفتيت وخلط للحابل بالنابل، وضياع المعايير واستقالة النقاد، فقد كان خيري، المنتسب إلى جيل الستينيات، من الحالمين الكبار في تلك الحقبة التي امتدت زهاء ربع قرن، بنهوضٍ عربيٍّ شامل، وقد شاءت له ظروفه التأمّل المضاعف والأليم بما انتهى إليه الحال: مرة شخصا ومواطنا، وتارة كاتبا يوميا وشاعراً مكبوحاً، وطوراً مشروع مفكّر لا تسعفه مهنته في القراءة والتبحّر والتدبر، وهذا هو الثمن الذي ظلّ يدفعه وينزفه بصمت، لقاء تحقيق المتعة والبهجة العقلية لقارئه.