ثنائيات العقل العربي

ثنائيات العقل العربي

21 سبتمبر 2018

(عمران يونس)

+ الخط -
لا يزال العقل العربي محصوراً بين ثنائيات فكرية جدلية عديدة ساهمت، بشكل أو بآخر، في تأزّم هذا العقل، وعدم قدرته على تجاوز هذه الثنائيات. ولعل أشهر هذه الثنائيات هي ثنائية أبو حامد الغزالي وابن رشد، والتي تبدو كما لو كانت حاكمةً لمنهج البحث العقلي في العالم العربي، على الرغم من انقضاء قرون على ذاك الجدل الفكري والفلسفي الشهير الذي دار بين الرَجليْن، فالعقل العربي والإسلامي يتعاطى مع قضايا كثيرة مطروحة عليه قديماً وحديثاً، منقسماً بين منهج النقل والتفسير والاستناد إلى الأدلة النصيّة من جهة، ومنهج التأويل وإعمال العقل فى تفسير النصوص والحوادث التاريخية من جهة أخرى.
وتبدو ثنائية الغزالي – ابن رشد كما لو كانت تجسيداً لثنائياتٍ أخرى كثيرة، راجت منذ القرن الخامس وحتى القرن السابع الهجرييْن (بين العاشر والثاني عشر الميلادي)، منها، على سبيل المثال، ثنائية ابن سينا – الشهرستاني وثنائية فخر الدين الرازي – نصير الدين الطوسي.. إلخ. وعلى منوال هذه الثنائيات، تطورت وتشعّبت المدارس الفكرية (الكلامية) والسياسية التي حملْت فى ثناياها بذور هذا الانقسام المنهجي في النظر للنصوص، والتعاطي مع حوادث الدهر.
وإذا كانت مثل هذه الثنائيات قد توارت قليلاً خلال القرون الأربعة التي حكمت فيها الدولة العثمانية، فيما بدا أنه غلبة لمصلحة المنهج الغزالي (الأشعري) على حسابه نظيره الرشدي (المعتزلي أو الفلسفي)، إلا أنها قد ظهرت مجدّداً أواخر القرن التاسع عشر، بعد الصدمة المعرفية والحضارية التي أحدثتها الحملة الفرنسية على مصر، نتيجة الانغلاق والجمود الذي دفن المجتمعات الإسلامية أربعة قرون، فظهرت ثنائية رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي – جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبعدها بقليل ثنائية رشيد رضا - علي عبد الرازق. وهنا انتقلت الثنائية من الحيز الفكري (الكلامي) إلى الفضاء السياسي، واستمرت حتى نهاية القرن العشرين الذي شهد ضمور تيار ابن رشد، وربما اختفاءه، لمصلحة سيطرة وهيمنة التيار الغزالي الذي اكتسح الساحة العربية، وذلك حسبما يرى باحثون ومفكّرون عرب عديدون.
لا ننكر أنه، خلال العقود الثلاثة الماضية، بذلت محاولات عديدة لتفكيك هذه الثنائية المتوالدة، أبرزها محاولات محمد عبد الجابري، والذي أخذ على عاتقه مسؤولية البحث فى خبايا هذه الثنائية الصراعية، الممتدة عبر القرون الإسلامية الوسيطة، وأسرارها. أو كما فعل المفكر المصري حسن حنفي. وكلاهما يُحسب له البحث عن صيغةٍ وسطيةٍ ابتعدت عن الانحياز الصارم لأي طرف، وتحسبّت للوقوع فى فخ الأدلجة والتمذهب العقائدي. تقابلها محاولات أكثر جرأة فى نقد هذه الثنائية، ولكن مع الانحياز لأحد الطرفين مقابل الآخر، أبرزها محاولات محمد أركون ونصر حامد أبو زيد.
ولعل اللافت في كل هذه المحاولات أنها جميعا لم تفلح فى الهرب من فخّ هذه الثنائية، وإنْ تظاهر بعضهم بذلك. ربما حاول بعضهم أن يرفع من سقف انتقاده لها، لكنه كان يفعل ذلك متحزّباً لهذا الطرف أو ذاك، وإن استتر خلف عباءة الموضوعية والالتزام المنهجي. وهو ما جعل هذه الثنائية تتحوّل، في حد ذاتها، إلى إيديولوجيا اعتقلت العقل العربي، وجعلته أسيراً لها.
وفي زمن الربيع العربي، استمرت هذه الثنائيات، بل وتعّمقت بشكل كبير بين مثقفين انقسموا إلى تياريْن، يتبنّى أحدهما الديمقراطية، ويدافع عنها، ويدفع ثمن ذلك كثيرأ من حريته، ويقف الآخر في خندق الاستبداد والسلطوية، يدافع عنهما مرة، وينتفع منهما مرة أخرى. ما ساهم، ولا يزال، في تعطيل الانتقال الديمقراطي العربي.

دلالات

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".