شيطاني العزيز لا تمت بحقّ السماء

شيطاني العزيز لا تمت بحقّ السماء

20 سبتمبر 2018
+ الخط -
(1)
الصبر طيب، وممتاز، لكن ليس على الظلمة والفاجرين واللصوص والجواسيس وأولاد الحرام الذين يسرقون اللقمة من أفواه أطفالنا. وعّاظ كثيرون متخصّصون بضرب الناس بالحقن المخدّرة، للصبر على المظالم، على اعتبار أن ما عند الله خيرٌ وأبقى، وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوّا في الأرض، نعم.. هذا كلام خيّر، ولكنها كلمة حقٍّ يُراد به باطل، لأنهم ينسون قوله تعالى: قل من حرّم زينة الله التي أحلّ لعباده والطَّيِّبَات من الرزق، أم أن هذا الرزق من حقّ اللصوص ومصّاصي دماء الشعب فقط؟
والأهم طبعا أنهم ينسون قول الحقّ، جلّت قدرته، بل يتجنّبون ذكره: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ۚ أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ.
والآيتان الأخيرتان تحديدا غير محبّذتين لدى مشايخ السلاطين الذين يبرعون، على نحوٍ خاص، بتبرير أفعال سادتهم، والتغاضي عن مظالمهم، طلبا للحسنات والفوز بالدار الآخرة، وترك الدار الأولى للحكّام وسدنتهم وأعوانهم، يعيثون فيها فسادا وظلما وقهرا، لأنها تؤسّس للثورة على الظلم. ولم أقع خلال بحثي عن أيٍّ من هؤلاء "السادة العلماء" ممن يتحدّث فيهما، أو يجعلهما، مثلا، موضوعا لخطبة جمعةٍ أو موعظة، لأنهم مشغولون بالدفاع عن "ولي الأمر" وتبرير كل ما يفعله، بل البحث عن "إسنادٍ شرعي" لمخازيه وقراراته الظالمة، وأكله أموال الناس بالباطل، وإشاعة الإرهاب والخوف بين "الرعيّة"، وقد بلغ الأمر بـ "داعيةٍ!" من هؤلاء، في درس في أحد مساجد المدينة المنورة، أن قال إنه لا يجوز الخروج على الحاكم تحت أي ظرف، حتى لو خرج الحاكم على الهواء مباشرة يزني ويشرب الخمر نصف ساعة يوميًا. وبرّر ذلك بقوله: إذا كنت أمام الحاكم في أثناء ارتكابه هذه المعصية فيمكن أن تنكر عليه، أما إذا كنت وراءه فلا تذكر اسمه، ولا تنكر عليه بطريقةٍ تحرّض عليه.
(2)
هل تذكرون قصة "رجل الدين" الذي أنقذ الشيطان، في إحدى قصص جبران؟
حسنا.. هي، باختصار، إن أحد رجال الدين كان على وشك إقامة قدّاسٍ في بيت من بيوت الله في إحدى القرى المجاورة، فأخذ يركض مسرعا، لكي يصل في الوقت المحدّد، وبينما كان يجتاز حقلا، شاهد في طريقه رجلا مصابا بطعنة سكّين، ففكّر رجل الدين بحمله، والاعتناء به، ولكنه شعر بأن ذلك ربما يؤخر وصوله، فتح الرجل المصاب عينيه وصاح: أعلم أنك ذاهب إلى القدّاس لإلقاء عظةً عن موضوع المحبّة، وكنت سأحضر أيضا، لولا أن قطاع الطرق طعنوني وألقوني هنا.. إذا نجوت من الموت، فسأخبر الناس بأن رجلا كان يموت على قارعة الطريق، فهربتَ لكي تلقي عظةً عن المحبّة بدلا من أن تنقذه.. فارتعب رجل الدين، واقترب من الرجل مكرها، وقال: بني، يبدو أنني رأيتك من قبل في مكانٍ ما. فقال الجريح: لا يبد
و أنك رأيتني، فأنا الشيطان، ولي صلة قديمة جدا برجال الدين؟ فقال رجل الدين: لا يمكن أن أنقذك، والأفضل أن تموت، فأنت الشيطان، ونحن على الدوام نتمنّى لك الموت، فلماذا أنقذك؟ ضحك الشيطان ضحكة مجلجلة، وقال: في اليوم الذي سأموت فيه ستصبح بلا عمل، إذ لا يمكنك أن توجد من دوني، فأنت رجل دينٍ، لأنني على قيد الحياة، وأنا أساس مهنتك. وعلى الفور، رفعه على أكتافه، وقال: شيطاني العزيز، لا تقلق، سوف أنقلك إلى أقرب مكان من أجل العلاج. من فضلك، تماثل للشفاء بسرعة، لا تمت بحق السماء إنك بخير..
فإذا مت سنصبح عاطلين عن العمل.
(3)
لست متيقّنا من مدى إطلاع من يصنعون الأحداث في بلاد العرب على ما يجري "تحت" في الشارع، ومدى تفاعله مع ما يقرّرون ويفعلون، فالعطب الذي أصاب كل شيء تقريبا في وطننا العربي لم يصل إلى مراكز رصد وتحليل تحولات العقل الجمعي، والوجدان الشعبي العربي، وإنْ أشكّ كثيرا في قدرة هذه المراكز على تحديد ردود الفعل المتوقعة لدى الشعب، أي شعب، مقارنةً بعدم قدرة أيٍّ من عباقرة العلوم وأجهزتهم على توقع حصول الزلازل في قشرة الأرض. بمعنى آخر، عجز العلماء عن تحديد وقت لوقوع الزلزال يقابله عجز علماء المجتمعات نفسها عن توقع تحرّك شعب ما في وقت ما، ردّا على فعل أو قرار ما!
للشعوب ذاكرة السمك غالبا، ولكن لها أيضا طبع البحر الذي تعيش فيه، ويشكّل بيئتها الحاضنة، من حيث غموضه وعمق أسراره، حتى مع توفر كل التقنيات الحديثة، والمجسّات شديدة الفاعلية. ثمّة ما لا يمكن رصده أو توقعه في حركة البحر، ومتى يهيج في لحظاتٍ، وحينها، لا ينفع الحكام (ومن يوسوس لهم من شياطين الجن والإنس!) لا وعّاظ ولا رجال دين.