استمرار فعالية الأيديولوجيا

استمرار فعالية الأيديولوجيا

20 سبتمبر 2018
+ الخط -
منذ نحت ديسات دي تراسي مفهوم الأيديولوجيا، والمفهوم يتغير ويتبدل، ويهاجر ويعود دخيلا حتى على لغته الأصلية، ولم ينقطع التفكير والكتابة عنه، حتى أصبح المفهوم الأكثر شهرةً في العلوم الاجتماعية. تعبر الأيديولوجيا عن أفكار يعجز العلم الموضوعي عن برهان حقيقتها وشرعيتها، لكن قوة هذه الأفكار تظهر في قدرتها على تحريك الجماهير. مفهوم الأيديولوجيا مزدوج، ويمكن النظر إليه على مستويين: الذي تقف عنده الأيديولوجيا، إذ تظن أنها حقيقة مطابقة للواقع، وهذا ما يدافع عنه أصحابها، والنظر إليها من خارجها بصفتها لا تعكس الواقع على الوجه الصحيح، إنما تعيد إنتاج الواقع بناء على أحكامها المسبقة.
من هنا، يظهر أن الأيديولوجيات متساوية في ما يتعلق بوزنها الذاتي، وبمنطقها الداخلي، لا في ما يتعلق بمطابقتها الواقع وبفعاليتها التاريخية، فكل حركة تنتج أيديولوجيا، أي تمثلا لعلاقاتها الاجتماعية، تنتج أيضا طوباوية، عن طريقها تتماهى براهن الصراع الاجتماعي، لكنها لا تستطيع أن تدمج هذه الأيديولوجيا وهذه الطوباوية. ولا يصبح ذلك ممكنا إلا إذا تطلعنا إليها من وجهة نظر العلاقة الاجتماعية. لذلك، تصبح الأيديولوجيا أقوى، بقدر ما تصبح الحركة أكثر تنظيما، وبقدر ما تعمل داخل تجمع إرادي، فعندما يكون التنظيم صلبا، وعندما تنتظم الحركة بكاملها داخل تجمع اختياري، تصبح المقاومة الأيديولوجية أشدّ صلابة، ويصبح من الصعب تذليلها.
العنصر الأقوى في تحالف الأيديولوجيا والطوباوية اشتراكهما في الاتجاه الكلي، فكل من 
الأيديولوجي والطوباوي لا يهتم بتطور بعض جوانب الحياة الاجتماعية، وإنما يهمهما تطور المجتمع ككل. والكليون، كما يقول كارل بوبر، لا يهدفون إلى دراسة المجتمع بواسطة منهج يمتنع على التحقيق فحسب، بل إنهم يهدفون أيضا إلى التحكّم في هذا المجتمع وإعادة إنشائه "ككل". من دون الإدراك أن الجوانب المسقطة من التصور الأيديولوجي هي التي تحكم طبيعة التطوّر اللاحق للمجتمع، ما يجعل الأيديولوجيا تسير في اتجاهٍ يختلف عن اتجاه التطور، فيغدو الكلي الذي راهنت عليه هذه الأيديولوجيا مختلفا عن الكلي الذي وصل إليه التطور، ما يجعلها مع الوقت أكثر ابتعادا عن عكس الواقع الموضوعي بأمانة. لذلك تتحكّم النظرة الأيديولوجية بصاحبها، بحيث يصعب عليه، ولا يستطيع إدراك المعطيات التي أفرزها الواقع الجديد، لأنه يتعامى عن التنويعات والتعقيدات، ويبقى أسير المسلمّات التي تفرضها الأيديولوجيا عليه، والتي تتحول إلى جزءٍ من تكوينه الفكري، ويجعلها معيارا وحيدا للحكم على التطوّرات التي لا يستطيع رؤيتها إلا من خلال تكوّنه الأيديولوجي. وكما يقول ماكس فيبر "لا يجوز أن نعتبر النظرية المادية للتاريخ كعربة يمتطيها ويتركها الناس متى شاءوا، لأن الثوريين أنفسهم، متى دخلوا إليها لا يستطيعون مغادرتها".
تدّعي الأيديولوجيا أن مرجعها العلم، فهي علمية، لكن ذاتيتها تجعل هذا الادّعاء كاذبا، فالعلم يتأسّس كلما انتفى تأثير الذات، والصفة العلمية هي نفي الذاتية، والذاتية هي أصل الأيديولوجيا. ولا معنى لهذا الكذب إلا بالنسبة للحقيقة، إذن ضمن ميدان الأيديولوجيات العلمية زورا، أو التي تدّعي أنها أصبحت مشروعةً بالعلم، هذه الأيديولوجيات تطرح نفسها بوصفها مجموعة من الأفكار والتمثّلات التي تدّعي وضع أساس النظام الاجتماعي والعمل السياسي على التحليلات العلمية. أما واقع هذه الأيديولوجيات، فإنها مذاهب تستند إلى النظريات العلمية، ولكن إلى النظريات الكاذبة، أو النظريات المشكوك في صحتها، أو نظريات أُسيء تفسيرها، والتي نعطيها مصداقيةً لا تستحقّها. والأيديولوجيا التي تحاول استعارة مقولات العلم، لتثبت علميتها، من خلال هندسة اجتماعية، يكون التنبؤ الكلي أساسها، فهي تستعير المقولات من دون أن تستطيع إنتاج علم اجتماعي مواز للعلم الطبيعي. لأن التنبؤ الاجتماعي لا بد أن يكون عسيرا جدا، لا بسبب تعقّد الأبنية الاجتماعية فحسب، بل أيضا بسبب التعقيد الناشئ عن تبادل التأثير بين التنبؤات والحوادث المتنبَّأ بها. وكل هندسة اجتماعية، مهما كان مقدار ما تفخر به من طابع واقعي علمي، فإنها تظلّ حلما طوباويا، فالأيديولوجيا التي ترمي إلى إمدادنا بأساس تعتمد عليه هندسة المجتمع، ليس في استطاعتها أن تصف الوقائع الاجتماعية وصفا صادقا.
ترتبط الأيديولوجيات السياسية بمصالح الفئات التي تتصارع لتصل إلى السلطة السياسية، والمصلحة تعني المصلحة الاقتصادية الجلية، فكل أيديولوجيا، كي تكسب الأتباع وتكون فعّالة، ترى ذاتها حقيقة مطلقة. لذلك، فكل أيديولوجيا تعمل على إنتاج أعمالٍ تتميّز عن أعمال الآخرين، وتحمل هذا النتاج للدخول في عملية المنافسة التي تنظم حقل إنتاج الثروات الرمزية، ومحاولة الاستيلاء عليها. هذا المسرح السياسي هو تمثل متسامٍ للعالم الاجتماعي والبنية الطبقية، وبهذا المعنى تصبح الأيديولوجيا السياسية بمجملها "تمثلا" للصراعات الاجتماعية، بصورة متنقلة سياسيا. لكن هذا الحقل السياسي هو أيضا نسق متخصص، نسبيا، ومستقل نسبيا عن الفروقات والتمايزات، إذ ينبغي أن يتّخذ كل شخص، وكل فئة، موقعهما ضمن نسق المواقع الخاصة هذا. ضمن هذا النسق، على كل فئة أن تحدد نفسها باستمرار. كما يفصح عن ذلك المصطلح السياسي، بأن التعبير عن الذات يعني "اتخاذ موقف"، وهذه المواقف المكتوبة منها والشفوية، هي كذلك أفعال تموضع ضمن الواقع التنافسي. بهذا المعنى "القول يعني العمل" بالنسبة للسياسيين، الكلام عمل بمعنى أنه يجعل المرء مرهونا ضمن شبكة اجتماعية من الانتماء والتحالف والتقارب والصراع.
وبما أن التطور التاريخي لا يُشكل وفقا للخطط النظرية، مهما برعت، وإن كان لمثل هذه 
الخطط بعض التأثير إلى جوار عوامل أخرى كثيرة. وحتى إن اتفقت هذه الخطط العقلية ومصالح بعض الجماعات صاحبة السلطات، فإنها لن تتحقّق أبدا على نحو ما تُصوّرت. لأن العامل الإنساني من بين عناصر الحياة الاجتماعية، العنصر المفتقر إلى التحكّم والتعيين والانتظام. وهو العنصر الذي لا يمكننا، في نهاية الأمر، أن نتحكّم فيه تماما بواسطة النظم، فكل محاولة للسيطرة عليه لا بد أن تؤدي إلى الطغيان، وهذا معناه استبداد العنصر الإنساني، ممثلا في نزوات قلة من الأفراد، أو ممثلا في نزوات فرد واحد. وكما حدد سبينوزا "الطغيان" بأنه محاولة تحقيق المستحيل، وممارسة السلطة حيث لا يمكن ممارستها.
لذلك، يجب نقد الأيديولوجيا بشكل مستمر، خصوصا في الحالة التي حددّها مانهايم "بالأيديولوجيا بصفتها ذهنية الطبقات في حالة انحدارها"، فقد عبرت الأنظمة الديكتاتورية أفظع تعبير عن الأهمية التي يمكن أن تتّخذها الأيديولوجيات ضمن وضعية الاستئثار السياسي، وكيف توظّف الأيديولوجيات للتعبئة والقمع الاجتماعي، زد على ذلك، إنها تستخدم وسيلة دمج وضبط اجتماعي.
على الرغم من كل الحديث عن سقوطها، نرى أن الأيديولوجيا ما زالت موجودة وبقوة أكبر، وإن تراجعت أشكال من الأيديولوجيا، فإن أيديولوجيات كثيرة فاعلة حافظت على آليات عملها الاستبعادية، والتي تؤدي إلى الطغيان، سواء كانت هذه الأيديولوجيات دينية منتعشة في المنطقة العربية والإسلامية، أو شعبوية كما الحال في الغرب.

دلالات

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.