وثيقة استقلال إسرائيل تجسيداً للاستعمار

وثيقة استقلال إسرائيل تجسيداً للاستعمار

19 سبتمبر 2018
+ الخط -
في خضم النقاش المحتدم أخيرا بخصوص القانون الذي شرعته إسرائيل، وأصبح يعرف بـ"قانون القومية" (واسمه الرسمي "قانون أساس: إسرائيل الدولة القومية للشعب اليهودي")، برز الحديث عن "وثيقة استقلال" إسرائيل، حيث أثير الادعاء أن قانون القومية يتناقض مع مبادئ وثيقة الاستقلال، والتي تم تسويقهاعلى أنها ليبرالية، تمنح المواطنة الكاملة وحقوقا غير منقوصة لمواطني الدولة، بالإضافة إلى ارتكازها على مبادئ كونية، على الرغم من المساواة والتسامح، وأن غالبية هذه الأصوات معدودة على التيارات الليبرالية أو اليسارية الصهيونية، لكنها لاقت أصداء وسط الأصوات المؤثرة في الغرب، مثل صحيفة الغارديان التي أثارت الموضوع في افتتاحيتها في ٢٢ يوليو/ تموز الماضي. صحيح أن الوثيقة تحتوي على بعض هذه المبادئ، إلا أن قراءة متروية لها، والتي تأخذ بالاعتبار السياق السياسي، المحلي والدولي، في تلك الحقبة، تبرز أن الوثيقة، وبعكس ما يحاجج به بعضهم، تعكس في جوهرها قيما استعمارية، وأنها إقصائية بامتياز.
لغايات شرح البعد التاريخي والسياسي للوثيقة، لا بد من تقديم تفاصيل عن النص وسياقه. 
الوثيقة إعلان تبناه "مجلس الشعب"، (أحد الأجسام التي كانت تمثل المستوطنين اليهود عشية النكبة، في الرابع عشر من مايو/ أيار 1948. وجاء هذا الإعلان متوافقا مع قرار التقسيم الذي تبنته الأمم المتحدة عام 1947، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين، عربية ويهودية، على أن تتبنى كل منها "إعلانا" يحتوي على قيم وحقوق، مثل حقوق الإنسان والمساواة. تركز الوثيقة، في قسمها الأول، على تاريخ اليهود والحركة الصهيونية. ويسرد القسم الثاني الحجج والمبرّرات القانونية والتاريخية التي تدعم إقامة دولة يهودية في فلسطين. وفي قسمها الثالث، تعلن الوثيقة قيام الدولة باسم ممثلي السكان اليهود وممثلي الحركة الصهيونية، وتنص على عدة مبادئ عامة للدولة التي تشتمل على هوية الدولة، قيمها وعلاقتها مع الآخرين.
يتجلّى البعد الاستعماري للوثيقة في الفقرة الأولى، والتي تبدأ بالحديث عن الأرض، حيث إنها تفيد بأن "أرض إسرائيل" (فلسطين التاريخية) كانت منشأ الشعب اليهودي، واكتملت فيها صورته الروحانية والدينية والسياسية، وفيها عاش حياة مستقلة في دولة ذات سيادة، وفيها أنتج ثرواته الثقافية والقومية والإنسانية، وأورث العالم أجمع كتاب الكتب الخالد. تقدّم الوثيقة بعدها سردا تاريخيا عن اليهود شعبا، وليس للمنطقة الجغرافية التي بدأت فيها، وتصورهم مجموعةً، "أخذوا يعودون إلى بلادهم بآلاف مؤلفة من طلائع ولاجئين ومدافعين، فأحيوا القفار، وبعثوا لغتهم العبرية، وشيّدوا القرى والمدن، وأقاموا مجتمعًا آخذا في النمو، وهو يشيد اقتصاده ومَرَافقه وثقافته، وينشد السلام مدافعا عن ذاته، ويزفّ بركة التقدم إلى جميع سكان البلاد، متطلعا إلى الاستقلال القومي".
إذا الصورة التي تصورها الوثيقة أن الأرض التي بدأ المستوطنون اليهود استيطانها فارغة وقاحلة، بحاجة لمن يستوطن عليها ويحييها من اقفرارها. وعمليا تفرغ الوثيقة الأرض من أغلبية سكانها وتعلنها "terra nullius”‬، وهو مصطلح لاتيني يعني بالعربية "الأرض التي لا تتبع لأحد". وقد كان هذا المصطلح، وما يحمل من معان، أحد أهم المبرّرات القانونية للسيطرة على الأراضي من خلال الاستعمار، خصوصا الاستيطاني الذي يحل به مجتمع المستوطنين مكان المجتمع الأصلاني. بكلمات أخرى، المقصود من المصطلح أن الشعوب التي تسكن هذه الأرض لا ترتقي إلى درجة الحضارة الأوروبية، ولذلك لا تمتلك كمجموعة تلك الحقوق التي يملكها الأوروبيون، مثل السيادة على أرضها. وبهذا التمهيد، تم محو الفلسطينيين، سكان البلاد الأصليين، والذين يشكلون الأغلبية العظمى من السكان عام 1948، تمهيدا لإنشاء شعبٍ جديدٍ من المهاجرين على أرض فلسطين.
لكن حقيقة وجود الفلسطينيين بشكل فعلي في فلسطين فرضت واقعا، كان من الصعب تجاهله بشكل مطلق، حتى في وثيقة من هذا النوع، وقعها الممثلون السياسيون لمجتمع المستوطنين، تتطرق، في نهايتها، الى الفلسطينيين، عندما تدعو العرب، سكان دولة إسرائيل، على الرغم من الحملات الدموية التي تشن علينا منذ شهور، إلى المحافظة على السلم والمشاركة في بناء الدولة على أساس المواطنة الكاملة والمتساوية، والتمثيل المناسب في جميع مؤسسات الدولة المؤقتة والدائمة "العرب هنا هم سكان فقط"، خاملون لا دور لهم في تاريخ هذه الأرض، وكأنهم لم يؤسسوا مجتمعا أو حضارة تستحق الذكر. وتأتي الوثيقة على ذكرهم معتدين عنيفين يشنون "حملات دموية" ضد المستوطنين اليهود الذين يتم تصويرهم في الوثيقة أشخاصا مثاليين، زرعوا الصحراء، وأنشأوا حضارة واقتصادا حديثا.
تتوافق هذه السردية مع أهم أسس الاستعمار الاستيطاني الذي يتمحور حول الأرض والسيطرة عليها، فلكي يتمكّن المجتمع المستعمِر من السيطرة على الأرض، عليه أولاً إزالة المجتمع الأصلي ومحوه، واستبداله بمجتمع مستوطنين يتم إنشاؤه على أنقاض المجتمع الأصلاني. وتتخذ عملية الإزالة والمحو، في هذا السياق، مناحي عدة، فهي تشتمل على أعمال القتل والإرهاب والترحيل، لكنها لا تقتصر عليها بالضرورة، حيث الإزالة والمحو، إلى حد بعيد، في جوهرها سياسية وثقافية، تستهدف السكان الأصليين مجتمعا له ثقافته واقتصاده ومنظومته السياسية. صحيح أن العنف يلعب دورا مهما هنا، لكن دوره ثانوي، نظرا إلى الهدف المنشود، إزالة المجتمع الأصلي وحدة ثقافية وسياسية قد تهدّد سيطرة مجتمع المستوطنين على الوحدة الجغرافية ونظام الحكم فيها.
وللاستعمار الاستيطاني بعدان: سلبي وآخر فعلي. يسعى الاستعمار الاستيطاني، ببعده السلبي، إلى إذابة المجتمع الأصلي، كمجتمع له كينونة سياسية، ويتم تصوير الفلسطينيين، في الوثيقة، مجموعة سكان همجية، نوعا من عملية الإزالة. أما ببعده الفعلي، فهو يسعى، بشكل دائم ومثابر، إلى بناء مجتمع المستوطنين، والصورة التي تعرضها الوثيقة عن المستوطنين ومثاليتهم هي نوع من الإنشاء المعنوي لمجتمع المستوطنين، إذ الصورة التي تعرضها الوثيقة تعتبر من المُسلّمات الفكرية التي توجّه سياسات الدولة.
يُحاجج ليبراليون إسرائيليون بأن دعوة الفلسطينيين إلى "المشاركة في بناء الدولة على أساس المواطنة الكاملة والمتساوية" دليل على التزام إسرائيل بمبدأ المواطنة المتساوية منذ قيامها. لكن هذه الدعوة هي أيضا تعبير عمّن هم أصحاب السيادة. فهنا، وبعد أن أنشأ اليهود دولتهم بناء على حق "طبيعي وتاريخي"، دعا هؤلاء، أصحاب السيادة، أفراد الشعب "الآخر" معدومي السيادة أو الحق في السيادة، للانضمام إليهم بوصفهم مواطنين متساوين. لم تأت هذه المواطنة المعروضة من واقع أن الفلسطينيين سكان في هذه البقعة الجغرافية، والجنسية حق للسكان يضمنه القانون الدولي، عندما ترث دولة (إسرائيل في هذه الحالة) دولة أخرى، فلسطين الانتدابية، أو بناءً على "حق طبيعي وتاريخي"، بل جاءت نتيجة دعوة قدّمها أصحاب السيادة، وهي أيضا دعوة مشروطة بجوهرها.
وحتى إن رأينا هذه الدعوة بادرة حسن نية، فإنه لا يمكن تقييمها الفعلي إلا في سياقها، فالذين 
أطلقوها كانوا، وبحسب الإحصائيات في تلك الفترة، أقلية في فلسطين، حتى في المناطق التي خصصتها خطة التقسيم للدولة اليهودية كانت نسبة الفلسطينيين 49,9%. وبذلك، تقصي الوثيقة حوالي نصف السكان من السيادة، وتقدّم لهم دعوة مشروطة للانضمام عملا خيريا، وليس بوصفه حقا. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه، في يوم إعلان قيام إسرائيل عبر هذه الوثيقة، كانت المليشيات الصهيونية قد رحّلت أكثر من ثلاثمائة ألف فلسطيني من بيوتهم التي كانت تحت سيطرة الدولة التي كانت في طور الإنشاء. وفي الوقت الذي كان فيه زعماء مجتمع المستوطنين يدعون الفلسطينيين إلى الانضمام مواطنين متساوين، كانت المليشيات التي تأتمر بأمرهم تقوم بأعمال تطهير عرقي ضد هؤلاء الفلسطينيين.
ينطلي المنطق نفسه أيضا على الفقرة التي قد تُقرأ باعتبارها ضمانا لبعض الحقوق، والتي تلتزم فيها إسرائيل بأن "تضمن المساواة الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها بدون أي تفرقة بين دين أو عرق أو جنس، تضمن حرية الدين والاعتقاد واللغة والتعليم والثقافة، وتحمي الأماكن المقدسة لجميع الأديان، وتراعي مبادئ ميثاق الأمم المتحدة"، جاءت خصوصا لكي تستوفي الشروط التي وضعتها خطة التقسيم، والتي رأت فيها الحركة الصهيونية اعترافا أمميا بحق إسرائيل بالوجود، حتى القضاء الإسرائيلي لم يأخذها محمل الجد، ورفضها باعتبارها مرجعا لإبطال قوانين مجحفة، سنّتها الكنيست (البرلمان).
الوثيقة إذا هي انعكاس لما أرادت الحركة الصهيونية عرضه لتسويق نفسها ومبادئها: على السطح التغنّي بقيم كونية وليبرالية يصعب رفضها، لكنها في الواقع تشكل تجسيدا للاستعمار ومنطقه الذي يمحو الفلسطينيين سياسيا من الوعي والوجود، ويحولهم إلى أفراد خاملين لا كينونة سياسية لهم. منطق الإزالة هذا ليس أمرا نظريا فحسب، إذ إنه يُترجم، بشكل مستمر، إلى نزعة دائمة لاستهداف الفلسطينيين سكانا أصليين، إن كان عبر التهجير المستمر أو استهداف الوعي السياسي، أو تجزئة المجتمع الفلسطيني... قانون القومية، وفقا لهذه القراءة، استمرار لهذه الوثيقة ونتيجة طبيعية لنهجها.
C25634CB-6FEF-4FF5-84EC-6F3091FAF153
C25634CB-6FEF-4FF5-84EC-6F3091FAF153
مازن المصري

محاضر فلسطيني في القانون- سيتي في جامعة لندن

مازن المصري