مصر.. اختلاق الإعجاز والتفاخر بالوهم

مصر.. اختلاق الإعجاز والتفاخر بالوهم

19 سبتمبر 2018

اللواء عبد العاطي والطفل وليد عبادي

+ الخط -
حالة جدل كبيرة في مصر هذه الأيام في وسائل التواصل الاجتماعي بشأن حقيقة المخترع الصغير الذي كرّمته أخيرا محافظة المنوفية، بعد رواج قصة فوزه بجائزة أرشميدس في روسيا عام 2016، فقد اتضح أن اسم الطفل لم يكن مذكورا في المسابقة، ولم يفز بها كما نشر في وسائل الإعلام منذ ثلاث سنوات.
يعج "يوتيوب" باللقاءات التي قام بها إعلاميو السلطة في مصر مع هذا الطفل (وليد عبادي) منذ كان طالبا في الثاني الإعدادي، فأطلقوا عليه ألقابا عديدة، مثل الطفل المعجزة والمخترع الصغير أو زويل الجديد أو أصغر بروفيسور في العالم. احتفاء ومؤتمرات وتكريم، والطفل يتحدّث عن اختراع ما، أحيانا عن نظام كهرومغناطيسي لاعتراض الصواريخ الحربية، وأحيانا أخرى عن ابتكاره مفاعلا نوويا يمكن حمله في حقيبة اليد، ويعمل بالطاقة الشمسية والنانو تكنولوجي.. أحاول استخدام معرفتي الهندسية ودراستي العلوم والفيزياء لاستيعاب ما يقول، فلا أستطيع استنتاج طرح متماسك. في المقابل، أجد نسبة كبيرة من خطبه وأحاديثه الصحافية تتحدّث عن الغرب الذي يحاول الحصول على اختراعه بكل الطرق، أو الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما الذي أرسل إليه "إيميلا" شخصيا، يعرض فيه مليارات الدولارات، من أجل الحصول على سر ذلك الاختراع، لكنه رفض الخنوع للغرب المتآمر.
لم يكن هذا الطفل الحالة الوحيدة، بل هناك نماذج أخرى كثيرة، تظهر كل فترة، وتسارع أجهزة الدولة إلى التركيز على تلك النماذج، والاحتفاء بها، وتسويقها دليلا على العبقرية، وعلى 
الانطلاقة العلمية الوشيكة، بدون بحث أو تدقيق حقيقي في تلك المزاعم، فهناك مخترع مزعوم آخر يزعم اختراعه جهازا يمكّنه من التحدّث للقطط، وآخر يزعم اختراع جهاز يجعل السيارات تعمل بالماء، وآخرون يظهرون على شاشات البرامج الحوارية كل فترة، وتحتفي بهم الدولة، ولكن بلا إنجاز حقيقي.
إن كانت الدولة تهتم بالمبتكرين الصغار، وتشجعهم على الاستمرارية وتعلم المزيد، فسيكون ذلك محمودا ومطلوبا، لكن ما يحدث في الحقيقة أن الدولة ووسائل الإعلام الموالية (المتحكّم فيها كليّا من أجهزة المخابرات المصرية) تحاول إيصال رسالة محدّدة، مفادها بأن نظام الحكم الحالي سينقل مصر نقلة نوعية نحو التقدم، وأن في مصر عباقرة ومبتكرين كثيرين، على الرغم من التخلف والاستبداد والفساد الإداري، وأن المشكلة فقط في الغرب المتآمر الذي يكره الخير لنا، ويحاول شراء الابتكارات المصرية الجبارة.. هل تتذكّرون اللواء عبدالعاطي الذي أطلق عليه الشباب على الإنترنت لقب عبد العاطي كفتة، كان يعمل في وظيفة "فني معامل".. لكنه زعم أنه قام بتطوير جهازٍ يستخدم للكشف على المتفجرات، ليقوم بدوره بعلاج أمراض مثل فيروس الكبد الوبائي والإيدز وأيضا السرطان، ليس ذلك فقط، بل أيضا يقوم الجهاز بتحويل الفيروس إلى غذاء يتغذّى عليه الإنسان كأنه يأكل "أصبع كفتة". وزعم كذلك أن جميع أجهزة المخابرات في العالم تطارده من أجل الحصول على سر الاختراع، وأنهم عرضوا عليه مليارات الدولارات، لكنه رفض، وأن المخابرات المصرية تقوم الآن بحمايته. هذا الرجل الذي تم منحه رتبة لواء "شرفية"، ولقي اهتماما ضخما ودعما كاملا من القوات المسلحة عامي 2013 و2014، وأقيم له مؤتمر كبير ليتم إعلان أن القضاء على مرض التهاب الكبد الوبائي سيكون خلال ستة أشهر، حضره رئيس الجمهورية المؤقت آنذاك، عدلي منصور، ووزير الدفاع عبد الفتاح السيسي، وتزامن ذلك مع حملة إعلامية هائلة لتسويق ذلك المشروع، وكيف أن مصر ستحقق المعجزات في القريب العاجل، وانصبّت الاتهامات بالخيانة والعمالة على من حاول نقد ذلك المشروع الذي لا يعتمد على أي أساس علمي، أو مناقشته، بل وتورّط عدد من كبار أطباء الكبد في الدفاع عن ذلك المشروع العجيب، حفاظا على مناصبهم الحكومية الكبيرة في وزارة الصحة.
مثال اللواء عبد العاطي كفتة خير مثال على كيف تجري أمور كثيرة في مصر، البروباغاندا وليس الجوهر، فالنظام الحاكم ووسائل إعلامه يحاولون البحث عن أي إنجاز علمي يبرهن على عبقرية الحاكم، والقدرة على التقدّم والازدهار في عهده. ليس مهما أن نسلك الطريق الذي يؤدي إلى التقدّم العلمي والتكنولوجي، مثل الاهتمام بالتعليم وتشجيع البحث العلمي. وليس من المهم بالنسبة لهم أن تكون هناك مقومات وعوامل محفّزة للتقدم العلمي، مثل الإدارة المنضبطة والحوكمة، والاهتمام بأهل العلم وليس أهل الثقة. ولذلك يكون هناك احتفاء مبالغ فيه بأي فكرة، حتى لو كان صاحبها مدّعيا أو محتالا أو مريضا نفسيا، بدون إخضاع الفكرة للاختبار أولا، وبدون التأكد من منهجية البحث العلمي، وكأن هناك تقدما علميا وطفرة علمية لمجرّد أن الرئيس هو عبد الفتاح السيسي. يتطابق ذلك كثيرا ما كان يحدث في العهد الناصري، في خمسينيات القرن الماضي وستينياته من سيول الأخبار اليومية في الصحف القومية، عن أن مصر ستغزو الفضاء قريبا، أو أن صواريخ القاهر والظافر ستحقق التفوق العسكري المنشود، وتدكّ إسرائيل في أول مواجهة.
عودة إلى الطفل المعجزة الذي وضعته الظروف في هذا الموقف. قد يكون مظلوما بشكل ما، 
فهو مجرد طفل. وعند متابعة الأحاديث الإعلامية له منذ سنوات، نجد أنه يملك سرعة بديهة وقدرة على التحدّث بطلاقة، وقدرة على حفظ معلوماتٍ كثيرة، بالإضافة إلى ثقته بنفسه، على الرغم من سنه الصغيرة، وتمكّنه في استدعاء أقوال عديدة، حكيمة ومأثورة، في أحاديثه لوسائل الإعلام. ويبدو أن والده درّبه على ذلك بشكل كبير، وهو الذى يوجهه ويلقنه ما يقول في اللقاءات الإعلامية، وهذه هي المشكلة، فالأب لجأ إلى الطريق الأسهل للوصول للشهرة والتكريم، فبدلا من تنمية مهارة ولده، وتشجيعه على الابتكار والبحث العلمي الدقيق، وبدلا من توفير جو يساعد على الإبداع والابتكار، لجأ إلى التزلّف للسلطة وادّعاء عبقرية غير مكتملة، أو غير موجودة، ولجأ إلى الحديث المحبّب لدى أجهزة السلطة عن المؤامرات الكبرى، وحروب الجيل الرابع، ومحاولة الغرب سرقة الاختراعات المصرية بهدف إفشال مصر.
تشجع الدولة المصرية ذلك الاحتيال وتحتفي به، وتصوّر تلك الخزعبلات في وسائل الإعلام دليلا على القيادة الرشيدة، فتشجيع الابتكار يتطلب اهتماما بالتعليم وتهيئة كل الموارد والإمكانات من أجل البحث العلمي، بالإضافة إلى تشجيع التفكير الحر والإبداع بدون قيود، فحتى الدول الاستبدادية، المتقدّمة علميا وتكنولوجيا في الوقت نفسه، لم تتقدّم عن طريق الخداع والتهليل فقط، بل كان لديها انضباط إداري واهتمام حقيقي بالتعليم والبحث العلمي. أما في مصر فهناك قواعد لن تؤدي إلى تقدم علمي أو تكنولوجي في يوم ما، فمنذ الخمسينيات وأهل الثقة هم الأفضل من أهل العلم والخبرة، مهما كان أهل الثقة فاشلين أو فاسدين أو جهلاء، فالنفاق وطاعة الحاكم هو المعيار للوصول إلى المنصب، حتى في المجال الأكاديمي والجامعي، فأستاذ الجامعة المؤيد للنظام، والمدافع عن سياساته على طول الخط، هو الأفضل فرصا للترقّي، وتولي المناصب، من الأكاديمي الذى قد يكون له رأي مختلف. وبالتالي، تشجيع ظهور هؤلاء المحتالين وأمثالهم على شاشات التلفاز، وادّعاؤهم العبقرية والنبوغ، وحديثهم المطعم بالقصص المثيرة عن تآمر الغرب، أسهل بكثير من تخصيص جزء كبير من الميزانية لتطوير التعليم والبحث العلمي.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017