فرنسا التي لم تعد هي نفسها

فرنسا التي لم تعد هي نفسها

18 سبتمبر 2018

رشيد طه وموريس أودان

+ الخط -
عرفت فرنسا، في الأسبوع المنصرم، حدثيْن جلليْن متباينيْن، أعلنا نهاية أكثر من مرحلة. الأول اعتراف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بمسؤولية الدولة الفرنسية عن "اختفاء" المناضل الشيوعي الفرنسي، موريس أودان (1932- 1957) الذي كافح من أجل استقلال الجزائر، وقُتل في يونيو/ حزيران 1957 على أيدي جنود فرنسيين، بعد اعتقاله وإخضاعه للتعذيب. أما الحدث الثاني فهو وفاة مغني الروك والراي، الجزائري الأصل، رشيد طه، عن عمر يناهز 59 عاما، ودفنه في وطنه الجزائر.
الحدثان لا يتساويان أهمّية، بالطبع، إلا في نظر من كان مثلي، غير موضوعي، وله علاقة وثيقة بالوطن الفرنسي، بعد أن أمضى فيه أكثر من نصف عمره، فتبنّى بعضا من ثقافته وقيمه، وتحدّث بلغته، وحمل أخيرا لا آخرا، جنسيّته.
برحيل المغني الأسمر ذي العينين السوداوين الواسعتين، والمظهر المهمل، والذي دامت رحلته نحو 35 عاما، تنقّل فيها بين الروك والراي، زائرا ومحييا الشعب الجزائري، كما في أغنية "يا رايح" التي شهرته، وجعلته إلى جانب، الشاب خالد والشاب مامي وفُضيل، أحد نجوم الثمانينيات والتسعينيات بلا منازع، برحيله تنتهي حقبة من الزمن بدا فيها اندماجُ المهاجرين إجمالا، والعرب والمسلمين خصوصا، حلُما قابلا للتحقيق، ففي تلك الفترة، راجت مقولة "بلاك بلان بور" (أسود –أبيض - مغاربي) تنويعةً على "أزرق أبيض أحمر (ألوان العلم الفرنسي)، وذلك بعد فوز فرنسا بكأس المونديال 1998 والتماع نجم زيزو (زين الدين زيدان) كونياً، وانتشار شعار "لا تمسّ بصاحبي" الذي رفعته "النجدة، عنصرية" التي نشأت عام 1985، وكانت مناهضة للعنصرية تجاه المهاجرين من أصول عربية وأفريقية، وبعد تطعيم الثقافة الفرنسية، هذه المرة بشكل واضح وصريح، بموسيقى الراي التي نشأت في الجزائر، ثم تجاوزت حدود بلاد المنشأ لتبلغ مستوى عالميا، وتبلغ معظم البلدان الغربية، وفي مقدمتها فرنسا حيث تحيا أكبر جالية من أصل مغاربي.
في تلك الفترة، لم يكن الأصل العربي، أو الدين الإسلامي، مرادفا للإرهاب، أو مدعاة للخوف والعزل، بل كان ممكنا بعدُ لأبناء الجيلين، الثاني والثالث، من المهاجرين، على الرغم مما كانوا يشعرون به من إقصاء وتمييز، أن يجدوا في الأفكار اليسارية التي كانت لم تزل رائجةً وسائدةً في المجتمع الفرنسي آنذاك، بيئةً حاضنةً لهم ومنحازةً إليهم، وإن لم يعتنقوا هم بأنفسهم تلك الأفكار، وأن يجدوا في رياضييهم أو مغنّيهم أو ممثليهم (جمال دبّوز مثالا)، نماذج لنجاحاتٍ أعادت إليهم شيئا من الاعتبار والاعتداد بأصولهم، وشكّلت قدوةً لهم. هكذا غنّى رشيد طه مثلا، بشكل تهكّمي، "فرنسا اللطيفة، بلاد طفولتي"، وهي أغنية من الريبيرتوار الفرنسي الأصيل (أغنية لشارل ترينيه)، هو الذي وصل إلى فرنسا في العاشرة من عمره، وشارك في الحفل التاريخي "1.2.3 شموس"، مع الشاب خالد وفضيل، الذي أعطى أشهر ألبوم راي إلى حدّ اليوم.
على صعيد آخر، اعتبر يوم 13 سبتمبر/ أيلول يوما تاريخيا في حياة الأمة الفرنسية، بعد زيارة رئيس الجمهورية ماكرون أرملة المناضل الشيوعي، موريس أودان، وطلب المغفرة منها، مع الاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن مقتل زوجها. خلال ستين عاما، بقي لغزا عصيّا "اختفاءُ" أستاذ الرياضيات، عشرة أيام بعد توقيفه، وإخفاء جثّته للتكتم على ما جرى له، إلى أن أصدر أخيرا قصر الإليزيه اعترافا رسميا جاء فيه: "لقد قضى (أودان) تحت التعذيب بفعل نظامٍ اعتُمد آنذاك في الجزائر على يد فرنسا.. من المهم معرفة ذلك التاريخ، والنظر إليه بشجاعة ووضوح، وهو الشرط لسكينة وصفاء ضحاياه.. في فرنسا كما في الجزائر".
معروفٌ أن حرب الجزائر من أجل نيل استقلالها شكّلت إحدى أكثر الفترات حلكةً وسوادا من تاريخ فرنسا، حيث جرت قوننة استخدام التعذيب وتعميمه، عبر خطة سياسية قامت على "منح صلاحيات خاصة" للجيش الفرنسي في الجزائر، وصادق عليها البرلمان الفرنسي في مارس/ آذار 1956. وهو ما شكّل لاحقا نوعا من ميثاقٍ سرّي بين اليسار واليمين على السواء، للتكتّم على الأمر وتناسيه حتى. وبهذا، تواجه فرنسا أحد التابوهات العصية التي ما زال جزءٌ كبيرٌ من الفرنسيين يرفض مواجهتها.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"