في تَأصيل الثورة الليبية

في تَأصيل الثورة الليبية

16 سبتمبر 2018
+ الخط -
عند الكلام عن الأصول في أي شيء، لا بد من التطرّق إلى ماهيتها اللغوية والاصطلاحية. وعند النظر في ذلك، نجد أن كلمة الأصل تحيل إلى المنشأ والتكوين، وهو كل ما يستند إليه غيره، وينبنى عليه، من حيث إنه ينبنى عليه ويتفرّع عنه، فالأساس أصل للجدار، والنهر أصل للجدول، وهكذا. أما في الاصطلاح، فيطلق الأصل على معان كثيرة، ترجع كلها إلى استناد الفرع إلى أصله وإنشائه وابتنائه عليه. ولتكيّفِ هذا المفهوم في مصطلح الثورات عند تأصيلها، لا يستقيم إلا باعتبار الشعب أصلاً وأساساً للثورة، بل والقاعدة التي تُبنى عليها أصول الثورة وفروعها السياسية المختلفة، من أجسام وهياكل تشريعية وتنفيذية، أو حتى خدمية بحتة.
وبشأن ليبيا، الثورة بالمفهوم الأصولي العام الشامل ليست مُلكاً لمن "يحتلون" مناصب القيادة في البلاد، وخصوصا في طور تكوينها الأول، بل وليست حكراً أيضاً على من يتولون مناصب سياسية رسمية أو حزبية، ولا حتى للذين يتولون مناصب تنفيذية في الجهاز التنفيذي، أو التشريعي المنبثق عن اتفاقياتٍ أحادية الجانب، أو على أقل تقدير ليست محل إجماعٍ أو اتفاق من الشعب الذي هو أصل الثورة. وخير دليل على ذلك ما برهنته مسيرة الثورة في سنواتها السبع الماضية، المليئة بالتقلبات والمماحكات، بل والمواجهات السياسية وحتى الحربية، حيث أثبتت أنها ليست ثورة فئةٍ معيّنة من الشعب، بل هي ثورة كل الشعب، بغض النظر عن 
المنتمين إليها إيماناً بفكرها ومبادئها، أو من أجل مصالح أخرى وجدت عبر آليات وأزمنة مختلفة من عمر الثورة، إلا أنها لم تكن يوماً، ولن تكون محل انفرادٍ من أحد، لا سياسياً ولا تنظيماً. ومن الأدلة على ذلك مقاومتها كل محاولات الاحتواء من الخارج قبل الداخل، والتي تسعى إلى تجريدها من شموليتها وانفتاحها على كل أطياف الشعب، بل وخير مثال على ذلك مقاومتها كل محاولات عسكرتها منذ انطلاقتها.
وبالتالي، فإن حالة "الانفراد"، أو حتى التّصلب أو التحيّز لرأي أو فكر واحد، لا تجدي نفعاً في مسار تكوين الدولة الناشئة بفعل الثورة. ومن الأفضل، بل والأصلح للدولة والثورة معاً، أن يستبدل مفهوم الانفراد بمفهوم شمولي، يضم جميع أطياف الشعب، ويحترم المشاركة السياسية للجميع. وكذلك يجب تأطير الاختلاف السياسي، حتى يكون أقرب إلى الاتفاق منه إلى الاختلاف، لأن الدولة عادةً لا تقوم على الاختلاف فقط، ولا على الاتفاق فقط، بل على كليهما، حيث قامت دول وتقدّمت، على الرغم من كثرة الاختلاف بين أطياف شعبها، وكذلك العكس. ومن هذا يتضح أن الدولة تقوم على حد سواء بالاختلاف أو بالاتفاق، بشرط تحقّق مبدأ المشاركة لجميع أطياف الشعب.
عود على بدء، عند النظر في ثورة فبراير في ليبيا، نرى أهميتها عند مقارنتها بالثورات الأخرى، ومقاومتها الثورة المضادة، على الرغم من أوج هذه وقوّتها، حيث إنها لم تستطع التغلب عليها. أو بمعنى آخر، تمكّنت الثورات المضادة من بعض الثورات الأخرى، وتغلبت عليها، إلا أنها في ثورة فبراير لم تستطع التغلب عليها، على الرغم من الدعم الذي تتلقاه من جهة، واشتراك مصالح الدول الداعمة للثورات المضادة عربياً وإقليماً على محاولة إعادة تدوير النظام فيها بطرقٍ وآليات جديدة، ليس أقلها عسكرتها من جهة أخرى. ومن ثمَّ، فإن ما يُنتظر 
في الوقت الحالي من الثورة بعد هذه المقاومة للثورة المضادة أولاً، وعدم وجود اتفاقٍ شاملٍ، أو أساس دستوري، تسير عليه الأجسام السياسية الموجودة على الساحة الآن ثانياً، هو تجديد نفسها سياساً، وذلك بالتخلي عن السياسة الفاسدة التي ضيّعت شيئاً من بوصلتها، بل ويجب التخلص من القوالب الجاهزة التي وضعت فيها، وجعلتها تتخبّط في الدوائر السياسة الدولية المقيتة من جهة، والانقسامات الداخلية الحادة من جهة أخرى، واستبدال هذا كله بمحاولاتٍ حقيقية لبناء مؤسسات الدولة وهياكلها التي يجب أن تكون فاعلة على الأرض والواقع، لا مجرد أشكال من دون محتوى، بل ويجب تخطي من يقف ضد الثورة بناءً وتنظيماً من هياكل الدولة المختلفة، وعدم تعليق مصير الثورة والدولة بها، لأن جوهر الثورة هو بناء الدولة، لا هدمها أو عرقلتها، غير أنه، في أحيان كثيرة، وهو ما تعيشه الثورة الليبية الآن، يجعل تغير هياكل الدولة والأجسام السياسية من الصعوبة بمكان، لارتباطها بمصالح القائمين عليها، والداعمين لها داخلياً وخارجياً. وما حدث من احتراب داخل العاصمة أخيرا خير شاهد على ذلك، إذ لم تستطع جميع الأجسام السياسية التنفيذية والتشريعية إيقافه، ولا حتى الوقوف بجانب وزاراتها الموكل إليها حفظ الأمن داخل البلاد، بل ظهرت على السطح حسابات وعواطف كثيرة تفسد أكثر مما تصلح.
وبالتالي، عند الحديث عن كل ما ذكر، وانسداد المخارج له، لا بد من العودة إلى الأصل، وغضّ النظر عن الأجسام والهياكل التي تتغلغل المصالح الضيقة فيها على كل الصعد، اقتصادياً وسياسياً، لأن الثورة الصحيحة التي تبنى بها الدولة يجب أن تتخلّى عن المصالح الذاتية الضيقة، وتحقق ما يتطلع إليه الشعب سياسياً واقتصادياً، والعودة إليه (الشعب)، كلما ضاقت مخارج الحلول لأزماتها، أو محاولة تغير مسارها، وإلا ما كانت ثورة، ولا كان الشعب لبها وأصلها.