هجمات سبتمبر في عيون عربية

هجمات سبتمبر في عيون عربية

15 سبتمبر 2018
+ الخط -
أذكر جيداً ذلك اليوم، بعد هجمات 11 سبتمبر بفترة قصيرة. بعد صلاة الفجر في المسجد، جاءني صديق، طالباً أن أفتح المصحف على سورة التوبة، قرأت ".. أم من أُسس بنايتُه على شفا جُرُفٍ هارٍ، فانهار به في نار جهنم". ابتسم رفيقي بانتصار، وهو يشرح كيف تنبأت الآية بالأحداث، فرقم السورة (9) هو رقم الشهر، وهي في الجزء 11 أي رقم اليوم، وعدد كلمات السورة 2001 أي السنة، و"جرفٍ هار" تشير إلى اسم شارع البرجين.
بدا لي الأمر مقنعاً جدا فصدّقته، كما صدّقت أنباء غياب آلاف اليهود عن المبنى في نيويورك في ذلك اليوم، وأن دخان المبنى يصنع صورة نجمة داود أو شيطان، كما صدّقت ما كانت تنشره صحيفة الأسبوع القومية لرئيس تحريرها، مصطفى بكري، عن الافتراءات الأميركية على المصري محمد عطا، بينما والده ينفي، كما ساهم نفي أسامة بن لادن الأولي في ذلك، فبالتأكيد هذا المجاهد الطاهر لا يكذب.
في العام التالي، 2002، تلقيت الصدمة، أذاعت قناة الجزيرة إصداراً لتنظيم القاعدة يُظهر بعض المنفذين وهم يدرسون كتيبات إرشاد للطيران، ويدرسون خريطة واشنطن، وفي الخلفية تسجيلٌ لبن لادن يشيد بهم واحداً واحداً، وفي مقدمتهم محمد عطا، قائد غزوة مانهاتن المباركة! فيما بعدً تكررت الإصدارات، أعلن بن لادن وأيمن الظواهري مراتٍ، كما أذيعت وصايا المنفذين التي سجّلوها بأنفسهم، كما تكرّرت مذكرات وحوارات بزوايا مختلفة.
سأعرف لاحقاً أن سر إنكار بن لادن، في البداية، أنه قام بالعملية من دون أي علم لحركة طالبان التي كانت مجرّد قوة أفغانية محلية، بلا أدنى طموحات عالمية، بل بالعكس كانوا يتفاوضون مع شركات النفط الأميركية لمد أنبوب. لقد دمّر بلاد مستضيفيه الكرماء بكل نذالة!
العجيب أننا اليوم، في العام 2018، ما زال معلقون كثيرون يؤكدون أنها تمثيلية أميركية بالكامل، بل وأن "القاعدة" لم تعترف بها قط، وأن الأبراج فُجرت بالقنابل. ويعتمدون هنا على حجج الفرنسي تيري ميسان. وبعيداً عن الردود العلمية والهندسية العديدة، فالرجل الذي أصبح مؤيداً شرساً لمعمر القذافي، ثم لبشار الأسد حالياً، ومن تصريحاته أنه اكتشف أن مؤسّسي "الجزيرة" فرنسيان يحملان الجنسية الإسرائيلية .. إلخ، ليس أفضل طرفٍ "علمي" محايد بالتأكيد.
وفي المقابل، لا مانع بالتأكيد من حدوث الاستغلال السياسي. في تقرير لجنة تقصّي الحقائق الأميركية سرد مطول عن الأسباب الإدارية لهذا الفشل الاستخباراتي، كانت الأجهزة مقسّمة ومتنافسة، تخفي على بعضها المعلومات، يُصدر مدير أمراً فيتجاهله آخر. ومن الوارد، وسط هذا، أن يكون هناك شخص أو جهة قرّر التجاهل وإغماض عينيه. ولكن لماذا نحتاج الإغراق في المجهول ما دام المعلوم كافياً؟ تم غزو العراق بناء على توجهاتٍ سياسيةٍ لإدارة بوش موجودة من الهجمات، هذا يكفي للغاية.
تحمل نظرية المؤامرة الكونية داخلها تناقضاتٍ جذرية، فحين تقول إن من تراه عدوك لا يمكن أن يؤذيه أحد هكذا، فأنت تقدّم خطاباً انهزامياً لا تحريضياً كما تظن، ولعل هذا ما دفع "القاعدة" إلى محاولة توفر كل الأدلة على فعله.
على الجانب الآخر، تؤدي هذه النظرة إلى تبرئة الذات بشكل تام. وباللامنطق نفسه، شاعت نظريات أن تنظيم الدولة الإسلامية مؤامرة غربية، وأن أبو بكر البغدادي عميل يهودي متخفٍ! جانب آخر هو اعتياد الرؤى الحدّية، الملائكة والشياطين، الأبيض والأسود، على الرغم من أن السياسة بطبيعتها حافلة بالمواقف المُركبة.
يعرف الجميع الآن ما حدث في حرب أفغانستان، موّلت أميركا وسلّحت "المجاهدين" ضد الاتحاد السوفييتي، وخرج الضالعون بالعملية لاحقا يسردون التفاصيل، هذا لا ينفي حدوث غزو سوفييتي حقيقي، وأن مقاوميه ليسوا ممثلين أو عملاء حتى لو تم استغلالهم، وهم بالتالي يتحمّلون المسؤولية عن أفعالهم وخطاياهم، بما فيها الحرب الأهلية الأفغانية لاحقاً.
أتفهم، اليوم، سبب أفكاري القديمة في عصر ما قبل الإنترنت والفضائيات، وحيث المحيط الخطابي كله لا يوفر لي إلا ذلك، أما "التآمريون" اليوم فما حجّتهم؟