لعبة النفط السوداني

لعبة النفط السوداني

14 سبتمبر 2018

مصفاة نفط في منطقة الجيلي شمال الخرطوم (9/6/2008/فرانس برس)

+ الخط -
عندما تكثّفت مشاعر التخبّط لتحقيق انفصال جنوب السودان عن شماله، أعمت الحماسة الزائدة، المخدومة دولياً وإقليمياً، أعين الحكام عن ملف النفط، بينما كان حاضراً فقط في المخيّلة، مختبئاً وراء الأوضاع الجديدة، كنتائج الانفصال، وما تنوء بحمل أعبائه السياسة والأمن والاقتصاد. وبعد أن ذهبت سكرة الإنجاز السياسي الخادع، وجاءت فكرة الوضع القائم على الانفصال، بقي النفط يرسم، في طريق عبوره، من الجنوب إلى الشمال، درباً من النار، يصعب تجاوزه أو القفز عليه.
بعد سبع سنوات، ينثر الإعلام الحكومي أخباراً كالأحلام، عن ضخّ بترول جنوب السودان عبر شرايين أنابيب النفط في الشمال، وصولاً إلى ميناء بشائر شرق السودان. وذلك بعد توقف طويل بسبب الحرب الأهلية في دولة الجنوب، ونسبة لخلافات سعر مرور النفط بين حكومتي الجنوب والشمال. ولكن من يقنع الشعب المغلوب على أمره بأنّ بئر النفط المعطلة قد تؤدي إلى غير تشييد القصور مثلما حدث من قبل.
أضاعت الحكومة السودانية جنوب السودان، بنفطه وإنسانه، وما كان يضرّها لو أنّها صبرت، فقد تغيرت الظروف الإقليمية والدولية، وذهبت القوى الدولية التي حرّكت الانفصال، كلٌّ إلى حال سبيله، لكنه قصر النظر واستسهال القرارات المصيرية التي جعلت السودان اليوم حقلاً لتجريب المجرّب.
انقسم السودان إلى نصفين، واختُزلت أواصر الوطن في العلاقات النفطية. وبه، كان طبيعياً أن تنحسر الآمال إلى دور محدود يقوم به السودان، وهو رعاية اتفاق إحلال السلام في جنوب 
السودان بين الرئيس سلفاكير ميارديت ونائبه السابق رياك مشار، فقد انفضّ المجتمع الدولي عن الجنوب، وانخفضت أسعار البترول، وما عادت النزاعات الأهلية هناك تجتذب المنظمات الدولية، وتوفّر أموالاً من تسيير الأزمة، يُعتاش عليها ما دامت الحرب، واستطالت مدتها.
تراجعت القوى الدولية، بعد أن تحقّق الانفصال عن ساحةٍ أدارت فيه لعبتها القذرة. وبعد أن انفضّ السامر، عاد السودان ليرعى سلاماً كسيحاً، ثم يُعلن عن إعادة إنتاج النفط من الحقول الواقعة بين البلدين. وإن أحدث الخبر صدىً وحِراكاً سياسياً على مستوى العلاقات بين البلدين، إلّا أنّه، في واقع الأمر، لا يعدو كونه استثماراً قصير الأجل، فهذه الضجة الإعلامية هي لجزء يسير من حقول البترول التي آلت إلى دولة جنوب السودان، ومجبرةٌ هي على مرورها بدولة الشمال إلى أن يكتمل الخط الناقل الذي يربط دولة الجنوب بكينيا في ميناء لامو، فقد بدأت الصين فعلياً، بواسطة الشركة الصينية للإنشاءات والاتصالات، في تشييد الجزء الأول من المشروع الضخم لميناء لامو الكيني الذي يربط منطقة شرق أفريقيا ووسطها، لتعزيز التنمية الاقتصادية والتكامل الإقليمي في منطقة شرق أفريقيا وخارجها. وكان قد تم وضع حجر الأساس للمشروع في 2 مارس/ آذار 2012، ويتوقع بداية التشغيل للمرحلة الأولى بعد الانتهاء من تعقيدات الداخل الجنوبي. وبالإضافة إلى ذلك، تعمل الصين على تأمين صادرات المواد الخام وتأمين الوصول إلى السوق الأفريقية، وتنشر السفن على طول الساحل الشرقي لأفريقيا، حتى لا يكون معتمداً على غيرها.
بعدما كان السودان ينتج ويصدّر، أصبح يكتفي من غنيمة البترول بمروره فقط، شاقاً أراضيه إلى ميناء التصدير، ولا ينال منه غير رسوم عبورٍلا تُسمن الخزينة العامة، ولا تغني أفواه الفاسدين من المضاربين ومتعهدي صفقات النفط. ثم بينما لم يسأل الشعب عن أين ذهبت مليارات الدولارات من أموال البترول، قبل انفصال الجنوب، فإنّه سيكفّ، بشكلٍ ما، عن أي مساءلة قادمة لرسوم المرور. ويبدو أنّ التاريخ سيعيد نفسه بشكلٍ مزعج، فقد برزت من قبل، في ظلّ السودان الموحّد، مشكلة تدنّي البيانات المعلنة عن إنتاج النفط منذ الأيام الأولى للإنتاج، بسبب غياب الشفافية، والانقسام الشديد الذي كانت تعاني منه البيئة السياسية. والآن يقع النفط تحت رحمة حكومتين في الشمال والجنوب.
قبيل الانفصال، وتحديداً في عام 2009، جاء تقرير منظمة غلوبال ويتنس، المعنية بالكشف عن استغلال الفساد في الموارد الطبيعية ونظم التجارة الدولية؛ موضحاً أنّ الحكومة السودانية كانت تنشر أرقاماً عن عائدات النفط لا يمكن التحقّق منها في ظلّ ضعف الشفافية، كما أنّها لا تتطابق مع الأرقام التي وردت من مصادر أخرى، مثل التقارير السنوية لمؤسسة البترول الوطنية الصينية. وبالطبع، لم يكن باستطاعة حكومة الجنوب، ولا المواطنين السودانيين، التحقّق من صحة عائدات النفط التي تتسلمها حكومة الخرطوم باعتبارها جزءا من اتفاقية السلام الشامل، فقد كان تسويق النفط يتم عن طريق حكومة واحدة فقط من الحكومتين اللتين تتشاركان في إيراداته، وهي حكومة الخرطوم. ولا تحصل حكومة الجنوب على نصف العائدات من آبار النفط في الجنوب. كما لا توجد رقابة كافية، لا على عائدات النفط من الحكومة المركزية وحكومة الجنوب وحكومات الولايات، ولا على ملايين الدولارات من أموال النفط التي يتم نقلها إلى الولايات المنتجة له.
على العكس مما هو سائد، قد تلعب العودة إلى إنتاج النفط دوراً رئيساً في اقتصاد السودان،
بدعمه عملية التنمية في إنتاجه وتصديره، ودعمه النشاطات الاقتصادية الحقيقية والمستديمة، مثل الزراعة والصناعة، فإنّ النفط السوداني لم يستطع تحقيق هذه الأهداف، في حالة امتلاكه النسبة الكاملة طوال العقدين الماضيين منذ اكتشافه، فكيف يفعل الآن بمجرّد رسوم مرور. وفضلاً عن ذلك، فإنّ هذه القاعدة، على الرغم من شذوذها، ليست ذات خصوصية سودانية، وإنّما تنطبق أيضاً على الدول ذوات الإنتاج النفطي المتنازع عليه، فأينما اكتشف النفط في دولة نامية غير ديمقراطية، فإنّه يأتي بالفساد، حيث تحاول الطغمة الحاكمة إثراء نفسها وأقربائها والموالين لها، بينما تترك بقية المواطنين في فقرهم المدقع. وبدلاً من أن يكون النفط أساساً يُبنى عليه الاقتصاد، ويعمل على رفاه الشعب، فإنّه يعمل على زعزعة الاستقرار وتشويه الاقتصاد الأساسي.
يقف سودان ما بعد الانفصال، بشقيه الجنوبي والشمالي، على فوهة النفط المشتعلة في الداخل، ووسط التحولات السياسية الإقليمية، وتحت عمليات التغييرات الاقتصادية العالمية التي زادت من الطلب العالمي على النفط، فحتى لو وقفت دولتا السودان في محطة النهضة، وإعادة صياغة الدولة اقتصادياً وسياسياً، فإنّه بفعل الفساد المتنامي لن يتمكّن مواطنو الدولتين من رؤية بصيص حلول داخل نفق النفط الطويل المظلم.
8615DCBC-E386-43F8-B75E-8FF0C27360A3
منى عبد الفتاح

كاتبة صحفية من السودان. حاصلة على الماجستير في العلوم السياسية. نالت دورات في الصحافة والإعلام من مراكز عربية وعالمية متخصصة. عملت في عدة صحف عربية. حائزة على جائزة الاتحاد الدولي للصحفيين عام 2010، وجائزة العنقاء للمرأة المتميزة عام 2014.