يا ظريف الطول

يا ظريف الطول

12 سبتمبر 2018

(صفوان داحول)

+ الخط -
باتت الكثيرات مطمئنات البال، بمجرّد أن سمعن المثل الشعبي الذي ردّدته الجدّات إن "زوج القصيرة يحسبها صغيرة". ومعنى ذلك أنه لن يشعر بتقدّمها في السن، وستظل، في نظره، تلك الشابّة التي تزوّجها. ولذلك، هن بالطبع سيردّدن اليوم، وفي اليوم العالمي لطوال القامة، إنه سيكون يوما عاديا وسيمرّ، مثل باقي الأيام، ولن تهتم، وأنا معهن، بالمناسبة، بأن رواد مواقع التواصل الاجتماعي يحتفلون في ما بينهم بها، فطول القامة ليس دائما مطلوبا ولا محمودا، وإن كان من مقاييس جمال النساء، وتغنّى به الشعراء.
لم أحب أن أكون طويلة القامة، لسببٍ يختلف عن باقي الفتيات، فأنا كنت احتلّ المقعد الأمامي في الفصل من دون منازع. وكنت أفضل ذلك، لكي أبقى قريبةً ومقرّبة من المعلمة، وحيث تسود الفوضى في المقاعد الخلفية، وتبدو التلميذات كأفراد العصابة وهن يتهامسْن، فيما تكون المعلمة في وادٍ آخر، أحرص على أن أخوض فيه، وألا تفوتني شاردة أو واردة. وحين كبرتُ وبدأنا دراسة الجينات الوراثية، بدأت أكتشف أنني ورثت طولي المتوسط، وليس القصير، من والديّ، فكلاهما أقربُ إلى القِصر، وبتزاوجهما أنجبا أولادا متوسطي القامة، أنا وإخوتي. وسعدت جدا حين أصبحت في المرحلة الثانوية، ووقعت على قصاصة صحيفةٍ، نشر فيها أن النساء يصنّفن قصيراتٍ إذا كان طولهن أقل من متر وثمانية وخمسين سنتيمترا، وكنت أقف عند هذا الطول فعلا.
وفي المدرسة أيضا، حفظنا عن ظهر قلب المثل الذي ردّده المعلمون عن تنافر طول القامة مع الذكاء، فيما رأى أجدادنا أن طول القامة يرتبط أيضا بخفّة العقل. وقد أظهرت أخيرا دراسة سويدية أن طوال القامة مهدّدون بالجلطات القلبية أكثر من متوسطي القامة وقِصارها، كما أن هذ الخطر يعادل خطر زيادة الوزن على صحة الإنسان، والمثير للقلق أن العلماء لم يتوصلوا حتى اليوم إلى طريقةٍ للتحكّم بجينات الطول، كما أنه ليست هناك معدّلات مثالية للطول المناسب للإنسان، وكل يوم يظهر شخص كأطول إنسان على وجه الأرض، ويبدو سعيدا بطول قامته، فيما تنهال التعليقات عليه من كل حدب وصوب، مثلما حدث مع الروسية إيكاتيرينا ليسينا، والتي صنّفت صاحبة أطول ساقين في العالم، حيث يبلغ طول ساقها اليمنى 132.8 وبزيادة لا تُذكر عن ساقها اليسرى، لكن التعليقات لاحقتها، لأنها ظهرت في وسائل الإعلام وهي ترتدي حذاءً بكعب عال، على الرغم من طولها المفرط، فيما يزيد طولها العام عن المترين بخمسة سنتيمترات. ومع ذلك، تصدّرت صورها أغلفة مجلات الموضة، ضاربة عرض الحائط بهذه التعليقات والتندّرات، فطولها بالنسبة لها يساوي ثروة.
ولأن طول القامة يحبّذ ولا يحبّذ في أوقات وأوقات، فحين توفيت جدّتي لأمي، وكانت قصيرة القامة، رأيتها ممدّدة على الأرض، ومغطّاة بغطاء أبيض، ذهلت من طولها الفارع، وقلت لأمي، في نحيبٍ منخفض، إن جدّتي لم تمت، فهذا ليس جثمانها، فلكزتني أمي لأصمت، أما خالتي فقد أوضحت الأمر أن الميت يزداد طوله، حين تصعد روحه إلى السماء، فلذت بصمتٍ باكٍ، حتى حملوها خارج الدار.
أما الأغنية الشعبية الفلسطينية فقد انتصرت لطويل القامة من الرّجال، فخلدت أغنية "يا ظريف الطول"، واسمه الحقيقي عليان بعل الكنعاني. وعلى الرغم من فقره، شغفت به فتاة اسمها عنات، لكنها تزوجت شابا ثريا، وارتحلت إلى مكانٍ بعيد، فظلّ يغني لها، ويسأل عنها في مواويله، حتى عادت يوما إلى قريتها، فعرفت أنه هائم على وجهه في بلاد الله، فغنّت له: يا ظريف الطول وقف لأقولك/ رايح ع الغربة بلادك أحسن لك/ خايف يا المحبوب تروح وتتملّك/ وتعاشر الغير وتنساني أنا.. وقد ظلت هذه الأغنية خالدة، وهي بشارة للرجل بأن طول قامته يملك قلوب النساء، ويستحوذ عليها أكثر من الثراء. وعلى الرغم من ذلك، فالرجل على العكس منها تماما، يفضل القصيرة، حسب دراسة بريطانية، فهو، في النهاية، لا يبحث عن امرأةٍ تنظف أعلى الخزانة من دون أن تقف على كرسي.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.