عن "مستصغر الشرر" في البصرة

عن "مستصغر الشرر" في البصرة

12 سبتمبر 2018

من حرائق الاحتجاجات في البصرة (7/9/2018/فرانس برس)

+ الخط -
الحكاية من أولها أن البصرة تعيش "انتفاضة" منذ شهرين، هل نقول "ثورة"؟ إنها أقل من ذلك، لكنها أكبر من انتفاضة، أو هي ثورة شبابٍ لم تستكمل أدواتها بعد. هم أيضا لم يستكملوا أدواتهم، إذ ولد معظمهم على وقع عمليات "الصدمة والترويع" التي مارستها الولايات المتحدة ضد العراق، وصولا إلى الاحتلال. لم يقرأوا أدبيات الأحزاب العتيقة التي سادت ثم بادت، ولم يكونوا في وارد تمثيل جهةٍ أو حزبٍ أو حتى طرح مشروعٍ للتغيير، لكنهم فعلوا الكثير، فقد أطاحوا الهيبة المصطنعة التي امتلكتها مليشيات وأحزاب ورموز تدّعي القدسيّة، وتزعم الدفاع عن الدين والمذهب. وفضحوا "العملية السياسية" الطائفية، وأركانها الذين اعتادوا وصم معارضيهم بأنهم "داعشيون" أو "صدّاميون" أو "إرهابيون"، غرضهم تقويض التجربة "الديمقراطية" وإلحاق الضرر بالبلاد، هم أيضا كسروا حاجز الخوف من قمع السلطة الغاشمة، والمليشيات السوداء الخاضعة لأجندة خارجية، وقدرتها على تعريض من يرفع صوته بالنقد، أو الشكوى، لكل أنماط العقاب، وهو خوفٌ كاد أن يستوطن النفوس، وأن يقضي على كل أملٍ بالتغيير والتحوّل.
بدأ الحدث صغيرا، شرارة وسط غابة أعشابٍ جافّة. فجأة اشتعلت النار واتسعت رقعتها، يقول أجدادنا إن النار تأتي من مستصغر الشرر. وفي مدينة مثل البصرة، فان مستصغر الشرر مقيم فيها منذ قدّر لها، كما لسائر مدن العراق، أن تسقط في غفلةٍ غير محسوبة، تحت وطأة احتلاليْن لا أقسى منهما ولا أمرّ، وقد استكانت مرةً، وقاومت مراتٍ، لكنها ظلت تتعامل مع الواقع المفروض عليها بمزيدٍ من الرفض والمجابهة والتحدّي، وإذ اتسع "مستصغر الشرر"، فقد وجد هؤلاء الشباب فجأة أن النار داهمتهم، وكان لا بد من أن يفعلوا شيئا. هنا حانت لحظة ولادة "الانتفاضة".

في لحظة الولادة هذه، كانت مطالب الشباب بسيطة، وفي حدود ما يوفر متطلبات الحياة الإنسانية في حدودها الدنيا: ماء، كهرباء، وفرصة عمل، ومزيد من الخدمات وراحة البال. سلكت "النخبة" الحاكمة مرة أخرى الطريق الخطأ، وصمت آذانها عن سماع هذه المطالب. هنا اتسعت الفجوة، ولم يعد هناك مجال للحوار الهادئ أو السجال الحر، وسقطت كل الخطوط الحمراء التي كان بعضهم يحسبون لها الحساب، وارتفع سقف المطالب: عملية سياسية وطنية، حكومة طوارئ، دستور جديد، اجتثاث الفساد ومعاقبة الفاسدين، ومواجهة التدخلات الخارجية.
وإذ اكتشف البصريون، عبر معاناة الأعوام الخمسة عشر التي أعقبت الغزو، أن إيران أخذت دور اللاعب الشرير في مدينتهم، وتوغّلت فيها على نحوٍ شرس، أقامت عشرات المؤسسات والمراكز والمدارس، بغرض نشر مشروعها العرقي الطائفي. وزرعت مليشيات سوداء، وأمّنت لها المال والسلاح، عملت على تدمير اقتصاد المدينة، ونهب ثروتها النفطية، وقطعت عن أهلها إمدادات الكهرباء، وتسببت في تجفيف أنهارها عندما خفّضت إمدادات مياه نهر الكارون عنها، فإنهم رأوا فيها خصما طامعا ينبغي مواجهته. ولذلك أشار إليها المنتفضون بالأصابع، وطالبوا بوقف تغلغلها وإدانته، ولم يفقد البصريون سخريتهم اللاذعة، إذ عزوا المسلك الإيراني تجاههم إلى حكاية تاريخية، تقول إن البصرة بنيت على أنقاض معسكرٍ للفرس، أقاموه في منطقة تدعى الخريبة، كانوا يسعون من خلاله إلى احتلال المدينة وإذلالها.
هذه بعض وقائع الحال الذي تفجرت فيه الانتفاضة التي وصلت حصيلتها إلى 27 شهيدا ومئات الجرحى، وهي ما تزال في عنفوانها. صحيح أنها ارتكبت أخطاء ما كان لها أن ترتكبها، ربما ورّطها فيها "مندسّون" من أطرافٍ سياسيةٍ، يهمها إيجاد المبرّر للانقضاض عليها، لكن "تنسيقية" الانتفاضة ردّت بحكمة، وقرّرت الانسحاب من الشارع بهدوء، بعد أن أدركت "أن أعمال الشغب والتخريب الممنهج تمت بفعل مجاميع مدسوسة لتصفية حسابات سياسية"، وأن أي تصعيدٍ غير محسوب قد يزجّ المدينة، والبلاد كلها، في دوامة مخاطر قد تدفع البلاد كلها إلى المجهول. وبالفعل، تحتاج الانتفاضة فترة التقاط أنفاس، يستريح فيها المحاربون، وليعكفوا على مراجعة واقع الحال على قاعدة "خطوتان إلى الخلف خطوة واحدة إلى الأمام"، ولكي تتعلم الانتفاضة من تجربتها، وتستخلص منها الدروس.
لكن يبدو أن رجال "النخبة" الحاكمة في العراق، سواء الذين صنعتهم واشنطن أو الذين دربتهم طهران، مصرّون على المضي في لعبة الحكم حتى النفس الأخير، وهذا ما يجب أن يكون واردا في حسابات المنتفضين.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"