الأردن.. نُخَب الريع وخيار الإنتاج

الأردن.. نُخَب الريع وخيار الإنتاج

12 سبتمبر 2018
+ الخط -
يقف الأردن اليوم على مفترق طرق، يضعه أمام ضرورة إنجاز تغييرات بنيوية، تطاول شكل مؤسسات الدولة والنظام السياسي، متزامنةً مع تصاعد عوامل الغضب والإحباط الشعبي، نتيجة العجز الرسمي عن مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.
تتراكم الأسئلة الصعبة التي تطاول الخيارات الاقتصادية "الجبائية"، والتي تمسّ مباشرةً حياة الأردنيين الذين يواجهون تآكل مداخيلهم، وغياب فرص العمل مع بلوغ نسبة البطالة نحو 18%، وغياب معايير العدالة والمساءلة، ما أدّى إلى تصاعد الاحتجاجات الشعبية التي ترفع شعار "نهج الحكم"، بالتزامن مع ضغوط عربية ودولية على الأردن، للتماهي مع مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، وتداعياتها الخطرة على شكل البلاد ومستقبلها.
تفرض التحدّيات الدولية والإقليمية اليوم على الدولة الأردنية خيار إعادة التموضع اقتصاديا وسياسيا، في مواجهة سلسلة من التغييرات في البيئة الاستراتيجية المحيطة بالبلاد التي تعاني من أزمة اقتصادية خانقة، وتواجه تحدّي قدرتها على التكيّف مع خيار الاعتماد على الذات، بوصفه الخيار الوحيد في مواجهة انحسار حادّ في المساعدات الخارجية التي كانت طوال عقود بندا ثابتا في إيرادات الخزينة العامة، حيث يتزامن المتغير الخارجي، المتمثل في انحسار الدعم المالي، مع تحوّلات اجتماعية وسياسية واقتصادية، في مسارٍ تراكمي طويل الأمد، فارضا جملة من المتغيرات التي تضع البلاد أمام محطة تفكيك البنية التاريخية للدولة الأردنية في طريق إعادة إنتاجها.
في الوقت الذي نأت الحكومات الأردنية، طوال السنوات السابقة، عن مهمتها في توفير فرص 
العمل، عبر إعلانات متكرّرة سنويا بعدم قدرتها على التوظيف في القطاع العام المتضخّم الذي يشكل نحو 41% من القوى العاملة في المملكة، باستثناء قطاعي الصحة والتربية اللذيْن طاولهما هذا التقنين في موازنات الحكومة خلال العامين الماضيين.
على وقع اضطراباتٍ شهدتها البلاد في رمضان الماضي، جيء برئيس الحكومة، عمر الرّزاز، الذي يحمل مشروعا عنوانه "الانتقال من دولة الريع إلى دولة الإنتاج"، في انسجامٍ مع شعار "الاعتماد على الذات"، الذي أطلقه العاهل الأردني نهاية العام الماضي، بوصف هذا الخيار أنه الوحيد المتاح أمام الدولة الأردنية.
تنحصر معادلة الانتقال من الريع إلى الإنتاج التي يسعى الرزّاز إلى تكريسها، وفق المنطوق الملكي في كتاب تكليف الحكومة، في إبرام عقد اجتماعي جديد بين الحكومة والمواطنين، في سابقةٍ تشريعيةٍ لم تعرفها أنظمة الحكم والمدونات القانونية، والتي تعرّف العقد الاجتماعي بوصفه عقدا بين الحاكم والمحكوم، وهو ما تسعى الآلة الرسمية الأردنية إلى تجنّب الحديث عنه بوصفه غير مطروح للنقاش أساسا.
وعلى الرغم من أن الأردن حصل على دعم خارجي، نتيجة اضطرابات رمضان الماضي، إلا أن تلك المساعدات غير قادرة على مواجهة متطلبات الإنفاق العام، حيث يشكل الإنفاق الجاري نحو 80% من إيرادات الموازنة.
على وقع هذا المأزق الاقتصادي، وبرنامج النظام السياسي الذي يسعى إلى إيجاد بنية اقتصادية معتمدة على ذاتها، عبر خيار النتاج المتجاوز الريعَ، يكون النظام السياسي في مواجهة مباشرة مع قاعدة الحكم التي كانت تلتفّ حوله على قاعدة الريع والأعطيات والمكاسب، إذ شكلت صيغة الريع إحدى أهم روافع ضمان صيغة "الولاء والانتماء"، مع تشابك شبكة من المصالح والامتيازات التي وفّرتها التدفقات النقدية السخية من الخارج، والتي أسهمت في استقرار البلاد ونظام الحكم فيها.
جاء رحيل حكومة هاني الملقي تحت وقع احتجاجات عاصفة في رمضان الماضي، ألهبها تقديم 
مشروع لقانون ضريبة الدخل، وهو المشروع الذي تعوّل الحكومة عليه لسد العجز في المالية العامة، ما أدّى إلى خروج آلاف المتظاهرين إلى الميادين العامة، رافعين شعاراتٍ تندّد بالقانون سيئ الصيت وبالفساد، وتطالب بتغيير النهج، وهي احتجاجاتٌ، في جوهرها، ترفض استمرار شكل الحكم القائم، والذي يريد العبور من صيغة الريع إلى صيغة الإنتاج، من دون أن تطاول بنيته الداخلية أي تغييرات حقيقية.
المحتجون الذين يقدّر عددهم بعشرات الآلاف، في رمضان الماضي، وجلهم من الشباب، مسنودين بجمهور افتراضي، يوفر بيئة وحاضنة لهذا الاحتجاج، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، أسهموا مباشرةً في إسقاط (وتجاوز) الصيغة الصورية للبرلمان، ومؤسسات الدولة الشكلية التي كانت، طوال عقود، توفّر واقي صدمات للنظام السياسي، في مواجهة موجات الغضب والانتقاد، وهو ما يفتح السؤال الكبير بشأن مدى قدرة النظام السياسي في الحفاظ على ولاء قواعد الحكم الريعية، والاستجابة لمتطلب الانتقال إلى صيغة الإنتاج، مع الحفاظ على شكل النظام السياسي وهيمنته، وهي معادلةٌ مستحيلة التحقق.
في موازاة الأزمة الداخلية، وانكشاف خارجي للنظام السياسي، وحالة عجز مؤسساتي مُطبق، وحالة تململ وغضب شعبي كبير، يُثار السؤال عن الصيغة التي يمكنها العبور الآمن بالبلاد من دولة الريع إلى دولة الإنتاج، من دولة الولاء إلى دولة الانتماء، ومن دولة احتكار السلطة إلى الدولة الديمقراطية.
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
78D57413-9DA6-427B-B957-612337B4E39B
منصور المعلا

كاتب ومحلل سياسي اردني، بكالوريوس في العلوم السياسية

منصور المعلا