المغرب.. هذا الفساد

المغرب.. هذا الفساد

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
حين يتغلغل الفساد داخل المجتمع، فذلك مؤشّر على أنه لم يعد مجرّد ظاهرة تقتصر على بعض القطاعات الحيوية، ذات الارتباط المباشر بالحياة اليومية للمواطن، مثل الإدارة والقضاء والأمن، بل بات ظاهرة مجتمعية مركّبة تخترق مختلف مجالات الحياة بدرجة أو بأخرى.
يبدأ الفساد في السياسة، فيتحوّل إلى شبكة واسعة تغذّيها المحسوبية والولاءات الشخصية والحزبية والجهوية. ومع الوقت، تصبح هذه الشبكة ''مرجعية'' للعمل السياسي، بدل الديمقراطية والتنافس الحزبي الحر، وسرعان ما تفرز دينامياتها التي تمكّنها من العبور إلى قطاعات الإدارة والاقتصاد والمال. ومع تداخل أنماط الفساد وتفاعلها، يصبح خيارا مجتمعيا مُمأسسا يتواطأ الجميع على تغذيته وتوسيع شبكاته.
لا حاجة للتذكير بما تورده التقارير الدولية بشأن تفشّي الفساد في المنطقة العربية، فغياب الديمقراطية، والحكم الرشيد، وسيادة القانون، وربط المسؤولية بالمحاسبة، عوامل كلها تفتح الباب على مصراعيه أمام تغوّل الفساد واستشرائه، هذا في وقتٍ تُبدي فيه شعوب المنطقة رغبة عارمة في إقرار الديمقراطية ومكافحة الفساد واجتثاثه.
مناسبة هذا الكلام تواترُ فضائح الفساد الأخلاقي والمالي في الجامعة المغربية، جديدها تسريب تسجيل صوتي عن مساومةِ أحد الوسطاء، طالبا دفع مبلغ مالي، مقابل تمكينه من التسجيل في سلك الماستر (الماجستير) في إحدى الجامعات. كان ذلك صدمة للرأي العام، نظرا لما يمثله من مساسٍ بحرمة الجامعة وصورتها في الوجدان الاجتماعي والثقافي. وفي الوسع القول إن ما يتسرّب من فضائح تنخر الجامعة يعكس، إلى حد كبير، حجم الانهيارات التي تعصف بالمجتمع المغربي على أكثر من صعيد.

وإذا كان من غير المنصف تعميم هذه الصورة السوداوية على كل مؤسسات التعليم العالي في المغرب، في ظل ما يبديه جامعيون مغاربة من استماتة في الحفاظ على نزاهة الجامعة ونبل رسالتها، ومحاولة تفعيل أدوارها المفترضة في التحديث والتنوير وتنمية الحسّ النقدي، إلا أن ثمة مؤشرات كثيرةً إلى ارتفاع منسوب الفساد داخل هذه المؤسّسات، بشكل يطرح أكثر من سؤال بشأن واقع الجامعة المغربية ومستقبلها. ولا يمكن فصل أزمتها عن المتغيرات العميقة التي عرفها المجتمع المغربي خلال العقود الثلاثة الأخيرة، فهي، في النهاية، تظل مؤسسةً تتحرك ضمن الشروط العامة التي تحكم هذا المجتمع، وتوجه توتراته المختلفة.
شكلت الجامعة، منذ استقلال المغرب، مصدرا أساسيا لإنتاج النخب الفكرية والثقافية والعلمية. وعلى الرغم من المشكلات البنيوية التي تعرفها المنظومة التربوية المغربية، إلا أن هذه الجامعة، على الرغم من قدراتها المحدودة، استطاعت أن تنتج أجيالا من النخب والكوادر ذات التخصصات المختلفة، وظلت سنوات في قلب رهانات الإصلاح والتنمية والإقلاع الاقتصادي والاجتماعي. غير أن النزيف المستمر لهذه المنظومة، وفشل مختلف مشاريع إصلاحها، كان لا بد أن يؤثر على فاعلية الجامعة ودورها داخل المجتمع، فحصلت تحولات بنيوية دالة داخل هياكلها ومؤسساتها في العقدين الأخيرين. ففضلا عن رحيل رموز الرعيل الأول المؤسّس، بدأت الجامعة تستقبل أجيالا جديدة من الأساتذة الذين أنتجتهم هذه المنظومة التربوية المتهالكة، ودفعت بهم، في غياب معايير علمية صارمة وواضحة، إلى رحاب الجامعة من دون تجربة مهنية، ولا عُدة علمية ومعرفية كافية، الأمر الذي كان له بالغ الأثر في تزايد ضعف جودة التكوين في الجامعة، واتساع الهوّة بينها ومتطلبات سوق العمل في ضوء التحدّيات التي أضحت تفرضها العولمة. وعوض أن تلتحم بمحيطها الاجتماعي والاقتصادي، وتشتبك مع ما يفرزه من مشكلاتٍ مختلفة، أصبحت عبئا نتيجة عزلتها المتواصلة، ومحدودية تأثيرها في هذا المحيط، وغياب الجودة والمردودية عن برامجها، وضعف مشاريعها المتعلقة بالبحث العلمي.
كان طبيعيا، في ضوء هذا الوضع المتردّي، أن تنتج الجامعة شروط فسادها، سيما مع التوترات الثقافية والقيمية الكبرى التي يعرفها المجتمع المغربي، وعجز مؤسساته ونظمه عن تدبير هذه التوترات بأقل الخسائر الممكنة. يعني ذلك أن تنامي الفساد واستشراءه في الجامعة المغربية جزء من أزمة مجتمعية كبرى، تتداخل فيها كل الخيبات المترتبة عن الإخفاق المدوّي للسلطة والنخب والمجتمع في اجتراح نموذج تنموي متكامل، تُسهم فيه الجامعة بدور أساسي وفاعل ومنتج.
تحتل الجامعات المغربية مراتب متدنية في سلم تصنيف الجامعات في العالم، وهو مؤشّر كاف لدق ناقوس الخطر بشأن مؤسسة اجتماعية حيوية، يُفترض أن تظل محصّنة في مواجهة مظاهر الإفساد في المجتمع. إنها بحاجة لإصلاح عميق وشامل، يضعها في قلب ما يستجدّ حولها من متغيرات ثقافية واقتصادية واجتماعية ومعرفية، أبرزها رهان الانخراط في الاقتصاد العالمي الذي يتطلب سياساتٍ عمومية ناجعة، لتكوين الموارد البشرية وتأهيلها، وبالتالي، جعلها قادرةً على مواجهة هذه المتغيرات.
لانتشار الفساد الجامعي كلفةً مضاعفةً قد لا ينتبه إليها كثيرون، فزيادة على آثاره الاقتصادية المباشرة المعروفة، يعمل على زيادة تهجين النسق القيمي داخل المجتمع، من خلال تزايد أنماط سلوك تعكس الوصولية، والانتهازية، والمحاباة، والنفاق الاجتماعي، وانعدامَ تكافؤ الفرص، وتبخيسَ قيم المعرفة والبحث العلمي الرصين، الشيء الذي يُفضي بهذا المجتمع إلى حافّة الإفلاس الشامل.