ارحموا أهلنا في إدلب من نزواتكم

ارحموا أهلنا في إدلب من نزواتكم

11 سبتمبر 2018
+ الخط -
يعيش السوريون اليوم، خصوصا في محافظة إدلب التي تضم حوالي ثلاثة ملايين فوق أرضها، حالة من الترقّب والرعب من تصعيد العمليات الحربية فيها، الأمر الذي سينجم عنه إزهاق أرواح وتهجير سكّانٍ، من المرجّح أن الحدود كلها ستغلق في وجوههم، مثلما وقع مع سكان درعا عند تصعيد العمليات الحربية، وكيف دفعتهم الحرب إلى العراء، بعدما أغلقت الحدود في وجوههم.
انطلاقًا من هذا الواقع، وهذا الاحتمال، واستحضارًا لقرائن مماثلة حصلت في عدة أماكن من سورية، بعد حصار وتجويع وعمليات حربية دامت شهورًا طويلة، انتهت أخيرًا بمصالحات نجمت عن مفاوضات برعاية روسية بشكل مباشر، وبمباركة مواربة من بقية الأطراف الضالعة في الحرب السورية، من المنطقي القول إن الأولوية الملحّة الآن هي حقن الدماء بوقف العمليات الحربية، والبحث عن طرق بديلة، بالتفاوض بين الأطراف المتنازعة، فالواضح أن الصراع في سورية اتّجه باكرًا نحو أن يكون على السلطة والنفوذ والاستئثار بالحكم. وبالتالي، كان الحكم للسلاح، ولم تكن هناك عملية سياسية في أيٍّ من أوقات الحراك السوري، والحرب من بعده، لأن الأطراف كلها، بين نظامٍ ومعارضيه، مرتهنة للخارج ولمصالح إقليمية ودولية، فتسعى هذه الأطراف إلى رعاية مصالحها وضمانها، والقمة في طهران أخيرا بين رؤساء روسيا وتركيا وإيران، بوتين وأردوغان وحسن روحاني، وما نجم عنها من تعنّتٍ في المواقف، خير مثال.

غياب العمليات السياسية ليس جديدًا، بل هو أحد ملامح الأزمة السورية الممتدة على عقود من الاستبداد والاستئثار بالحكم، نجم عنه غيابٌ للمعارضة السليمة والمعافاة، فالمعارضة، بمفهومها الأساسي، ليست جبهة تقود صراعًا من أجل البقاء والوصول إلى السلطة فقط، بل هي نشاط سياسي اجتماعي لخدمة الصالح العام، هذا هو الدور المهم الذي تتكفّل به، وبالتالي لديها خطط واستراتيجيات، وتقوم بنقد الأداء السياسي للنظام القائم، هذا في الدول التي تنتهج الديمقراطية، وتكون لديها أحزاب معارضة تلجأ إلى صناديق الاقتراع، لتحصل على أكبر نسبة من الأصوات، من أجل الوصول إلى البرلمانات وامتلاك الأغلبية في التصويت على المشاريع المقترحة، من أجل أداء الحكومة على الصعيدين، الداخلي والخارجي. وعندما تكون هناك أحزاب عديدة، تلجأ هذه إلى تشكيل ائتلافات من أجل الحصول على كتلة برلمانية وازنة. هذا في الدول الديمقراطية، أما في الدول التي يحكمها نظام استبدادي أو عائلي، فليست الأمور بهذا التنظيم أو الحركية الفعّالة، فعندما لا تكون هناك عملية ديمقراطية واقتراع وانتخاب نزيهة، تمارس البرلمانات في الأنظمة الاستبدادية دور الحكومة، وهي برلمانات تسلطية استبدادية لا تمثل قضايا الشعب. ولا تقبل هذه الأنظمة الشمولية الاستبدادية معارضًا فعليًا لنظامها وأدائها السياسي وطرق إمساكها زمام الأمور في الدولة والمجتمع، وهي تعتبر أن أي معارضة لحكمها تمثل خطرًا على أمنها، ولذلك تلجأ إلى قمعها وحظرها من العمل السياسي، العلني والسري، فهي لا تقبل أي رفض لسياستها والاعتراض عليها، وتعتبر أن المعارضة بمثابة خروج عن النظام، ونقد أداء النظام وسياساته، بل نقد الوضع الراهن، مهما بلغ شأن الفساد فيه والركود والمشكلات المستعصية، خيانة وعصيانًا يستوجبان العقاب.
من هذا المنطلق، كانت العملية السياسية غائبة تمامًا في سورية عقودا خلت، ولم تكن هناك أحزاب يمكنها الاضطلاع بدور قيادي تنويري، يؤسّس في المجتمع ثقافة وعي الذات والآخر والحقوق والواجبات والتعدّدية والمساهمة في صنع القرارات، ومفاهيم الديمقراطية والعدالة والمساواة وغيرها، فقد كانت تلك الأحزاب مستهدفةً من النظام، فمزّقها وشرذمها، واستعمل كل أشكال القوة في تفتيتها وجعلها مشلولةً عاجزة عن القيام بأبسط الأدوار الموكلة إليها، مستعيضًا عنها بجبهةٍ وطنيةٍ تقدّمية يجري تشكيلها في الفروع الحزبية لحزب البعث والفروع الأمنية، وتتم العملية الانتخابية الهزلية بكل وضوح وفجور، لتصل القوائم إلى مجلس الشعب الذي لم يمثل يومًا إلا إرادة السلطة الحاكمة. ولا يغيب عن الأنظمة من هذا النوع إحساسُها بضعف شرعيتها وانعدامها وبعدم متانة ركائزها الاجتماعية، ولذلك تلجأ إلى تعزيز وجودها بمزيدٍ من القمع والعنف وتقييد الحريات وانتهاك الحقوق الأساسية. لوحقت الأحزاب في سورية، وكان تعامل النظام معها مزيدًا من القمع والملاحقة والتفتيت، اليسارية والعلمانية منها، أو الإسلامية، وإذا كان العنف المبالغ به مورس على جماعة الإخوان المسلمين، فلأن هذه الجماعة كانت أكثر تماسكًا وتنظيمًا ودعمًا، وكانت الوحيدة التي واجهت النظام بطرق عنفية، ونجم عنها جناح مسلّح، واجه بسلاحه الدولة والمجتمع، فوجّه إليه النظام ضربة قاضية. لكن، ما الذي حدث في العقود اللاحقة؟
تبدّدت الأحزاب اليسارية والعلمانية، وانشقت عن بعضها بعضا، وبقيت من دون دعم خارجي، بينما كانت الجماعات الإسلامية تعيد تنظيم نفسها وصفوفها، وتضع خططها واستراتيجياتها، بدعم وتمويل من جهاتٍ عدة خارجية وإقليمية، وتعمل على تأسيس كوادر شعبية، مستغلة الفراغ الروحي والفكري الذي صار يتمكّن من الناس، في وقت كان المجتمع السوري يغرق في ركوده، وتنحدر حياته المعيشية والفكرية، وتنشط فيه النزعات الدينية والطائفية والمذهبية، بينما النظام السياسي ماضٍ في أسلوب حكمه، محاصرًا الحريات، منتهجًا سياسات اقتصادية فتحت الأبواب مشرعةً للاقتصاد الحر، ولرؤوس الأموال المتغوّلة في موارد البلاد وحياة البشر، فكان الإحساس بالظلم يزداد ضراوةً، والوعي العام ينحدر إلى مستوياتٍ أدنى، ويجنح الناس في حياتهم وسلوكهم نحو الحالة البدائية للتنظيم، إلى ما قبل الدولة، نحو القبلية والعشائرية والعائلية والطائفية، وصارت فئات المجتمع السوري مجموعاتٍ وتكتلاتٍ تقوم على انتماءاتٍ ضيقةٍ تمارس المعارضة ضد بعضها بعضا.
منذ بداية الحراك السوري، لم تستطع الأحزاب والجماعات المعارضة أن تشكّل جسمًا أو ائتلافًا قادرًا على أن يضع أهدافًا وخططًا يُقنع السوريين بها، ويسعى إلى تحقيقها. باكرًا انحدر الحراك، تحت سلطة التشكيلات المعارضة التي سادت على الموقف السياسي إلى العسكرة والسلاح، وإلى الارتهان إلى الخارج. ومع ازدياد العسكرة والاعتماد على السلاح وطول أمد الحرب، ابتعد الحراك السوري عن الأهداف التي انتفض الشعب لأجلها، ولم يعد هناك حراك ثوري، بل صراعٌ واقتتالٌ على السلطة وتدويرٌ لنظام قمعي، يفوق في بعض طروحاته النظام القائم قمعًا وإقصاءً، والمثال الحي الآن الفصائل الأقوى المسيطرة على الحياة في إدلب، جبهة النصرة وحلفاؤها، والتي ترهن ثلاثة ملايين سوري تحت سيطرتها. السؤال الجوهري: ما
الذي تريده هذه الفصائل وما هو برنامجها؟ ما هي الشعارات التي يمكن أن تُقنع السوريين بها؟ هي فصائل مقاتلة، مرجعيّتها دينية متطرّفة، تدعو إلى حكم إسلامي شمولي. لم يخفِ قادتها، منذ البداية، مشروعهم هذا، وموقفهم من بقية الأفراد والمجموعات التي لا تشبههم، وعنفهم وتطرّفهم في استخدام القوة ومصادرة المجال العام وتكريس استبداد ديني وحكم قمعي عنيف.
ثلاثة ملايين سوري تحت رحمة المزاودات والرهانات غير المدروسة، أو على الأقل التي لا تضع مصلحة الشعب وحماية حياته في أولوياتها، وسيطرة الجهات المرتهنة إلى الخارج، تمارس ساديّتها على الشعب، وتتلذذ بمازوخيّتها تجاه أسيادها ومموليها وماسكي رقابها.
ليتفضّل الذين يريدون من أهلنا في إدلب أن يحتملوا القصف، ويواجهوا الرصاص بشجاعة ولا مبالاة، ويبقوا مرتهنين لأمزجة المسلحين وبنادقهم وأهوائهم، ويطرحوا البرنامج البديل، ماذا لديهم غير إسقاط النظام؟ ما هو برنامجهم القريب والبعيد، وما الذي يمكن أن يفاوضوا عليه؟ سورية للسوريين، ومن يستلم قرارها اليوم ليس سوريًا، ولن يكون رحيمًا بأهلها. القمة الثلاثية هي قمة التغول بحياتنا، نحن السوريين، تعرض نفسها أمام العالم غير المبالي بمصيرنا، وبمستقبلٍ لا يمكن، إذا استمر فيه السلاح في القول، أن يخلّف أكثر من دولة مشلولة، زيادة على دمارها، لن تستطيع النهوض.