ضدّ الجمال

ضدّ الجمال

02 سبتمبر 2018
+ الخط -
حين تصف كتابًا بأنه ضدّ اليقين، فهذه صفة تتوخّى الحفر في جمال الموصوف، بأنه ليس بالجُهد الكسول الذي يقدم إجاباتٍ حيث لا إجابة، ولا يذهب إلى العموميات أو السّطحية، بل يذهبُ، أعمق، إلى ماهية الأشياء ومنطلقاتها، ونبعها الحقيقي، حيث تكمن الأسئلة كألغام تلتصق بك، وأنت خارج من هذه التجربة العميقة التي يجب أن يحملها كل كتاب لقارئه.
ذلك أن امتلاكَ حسٍّ نقدي أول ما تربحه من القراءة التي تفتح أفقيك المعرفي والفكري معًا؛ ولا يتوقف الأمر هنا، بل يمتد إلى تقبل حقّ الآخر في فعل ما تفعله أنت، "النقد"، الذي لا يعني بالضرورة كتابة مقالاتٍ نقدية، بل النّظر بعينٍ ناقدةٍ، متسائلةٍ، مشكّكة، مفكّرة، مفكّكة لكل ما تراه، والخروج من عباءة اليقين إلى عري الشك، ومطبّات السؤال. تكون البداية من الذات، فتكون ناقدك القاسي، مُحفزك، والشّخص الذي يقيّم أداءك بعينٍ ترى أنه كان يمكنك أن تقدّم أفضل دائمًا. عينٌ لا ترضى، ولا تشبع أبدًا، ترى الآخرين ونفسك كتلة أداءات. تنظر إليهم من خلال أدائهم، الاجتماعي، الإبداعي، المعرفي، حتى تكون عادلًا؛ فالبشر متساوون، باستثناء القدرات التي يولدون بها، والتي يستغلها بعضهم لتحسين أدائه؛ ويهملها آخرون، بينما يسعى غيرهم إلى اكتساب وإيجاد قدراتٍ لم تولد معهم، في أداءٍ بديع تتفوق فيه إرادة الإنسان على عطايا الطبيعة.
تقفُ أمامهم، ولا يسعك سوى الإعجاب بأدائهم، على أيّ مستوى كان. وهنا لا يأخذ الأداء نسقًا واحدًا في التطوّر، بل يتذبذب، ويتصاعد وينزل وفق عوامل مختلفة، يأخذك الإعجاب بمن
 يتحدّى قدراته في الأداء، ومن يهملها، على حد سواء. فكلاهما يتحدّى الطبيعة، وما جُبل عليه، بتغيير مصيره الذي يفترض نظريًا أن يكون ملائمًا لقدراته.
وفي النقد تختلف المعايير، والتقييمات، وفق شخصية كل ناقد: كتابٌ جميل، روايةٌ جميلة، شاعرةٌ جميلة؛ هكذا يخرج بعضهم من الفكر النقدي إلى النّعت السطحي، بالهروب من إطلاق صفةٍ مناسبة لما يتحدّثون عنه، فالجمال ليس صفة نقدية، بل شكلية نقصد بها الوصف، لا النقد؛ بل أكثر من ذلك حتى على مستوى الوصف، هو وصفٌ عام يقف على مبعدةٍ مما يَصف. نصفُ بالجمال شخصًا أو شيئًا من الداخل أو الخارج، كوردة، أو حذاء أو فستان أو بيت.. وحتى على هذا المستوى، تجد أوصافًا مناسبةً أكثر، ودقيقةً تعبر عن نوعية الجمال الذي نراه، وتأثيره، ومكامنه.
وحتى عندما يتفادى رجلٌ النّظر إلى امرأةٍ جميلةٍ تحادثه، أو العكس؛ عندما يكونان في سياق غير رومانسي أو غير عاطفي، لا تربط هنا بينهما أي علاقةٍ تعتمد جنسهما، بل علاقة إنسانية تعتمد معايير أخرى؛ بهذا التفادي الإرادي، أو اللإرادي، يقاومان، من جهةٍ، دفق الجمال الذي قد يؤدّي بهما إلى حيث لا يرغبان الذهاب، أو لأنهما لا يودّان الاعتراف لبعضهما برؤيتهما هذا الجمال الخارجي. إنها آلية دفاعية ضد الجمال، لا يعترف بها كلاهما، على الرغم من أن هذا لا يعني أن في كل اجتماع بين امرأة ورجل، تذهب فيه حواسّهما إلى تلمّس جمال الآخر، على الرغم من أن هذا التلمّس ليس جنسيًا بالضرورة، بل إنساني، من صميم طبيعة الإنسان الذي خلقه الله على صورته، الله الذي يحب الجمال وزرعه في الأرض، وزرع حبّه في مخلوقاته. المقصود أن تذوّق الجمال مسألة تفوق النوازع السّطحية، بل هي عملية روحية، ويمكن أن تكون فلسفية، بالحوار الداخلي الذي يفتحه الجمال مع النفس عن مكامن الشبه، بين جمالٍ وآخر. فالمرأة قد تشبه نوعًا من الزهور، أو الأشجار؛ ويمكن أن يشبه الرجل نباتات وروائح، ويمكن أن يشبه الطقس، فهناك رجال كالمطر، قليلٌ منهم يُحيي، وكثير يُميت؛ وآخرون كالشمس بُعدُهم دفء وقربهم احتراق، وبعضُهم كالفصول في سماحتها، وفي اختلافها في التفاصيل، وفي ميول بعضهم إلى فصل عاصف كالشتاء، أو إلى فصل حار كالصيف.
هذا الإنسان الذي يملك قدرة فريدة في نقد الجمال نفسه، يريده بعضهم أن يخرس تجاه ما يراه جمالًا، ويكتفي بهذه الكلمة الآلية "جميل"، هذه الكلمة المستهلكة، والتي في وسع أيٍّ كان تلفّظها، وهو يقصد أشياء كثيرة، أو لا شيء على الإطلاق، فلها قدرةٌ على احتواء الفراغ الناتج عن عدم التمكّن من تحديد موقفٍ تجاه ما نتحدّث عنه؛ ولها قدرةٌ على تحويل شيء مذهل، بكلمة واحدة، إلى شيءٍ عادي جدًا بمثل هذه الكلمة، فالكلمة اختيار، والكلمة مفتاح، والكلمة نبوءة.
ومع هذا التّسطيح في النظر إلى الأشياء والأشخاص، والأداءات، نواجه الآن اختفاء النقد، 
بوصفه حاجةً معرفيةً وفلسفيةً وجماليةً وإنسانية؛ ما معنى الأدب والفنون جميعها من دون عينٍ فاحصة تقرأه قراءة عميقة، تشفّ ما قصده المبدع؟ والأهم ما لم يقصده؛ ما أسقطتهُ جمل الكاتب، وريشة الفنان، وكاميرا المخرج. المعاني الخفية، ومكامن القوة والضعف، والروح الدافقة التي تغذّي هذا الفنان أو الأديب أو ذلك؟
ما يوجد الآن في معظمه إما نقد "حبّي"، يُطبل للعمل الذي ينقده، ويُبين محاسنه، بلغةٍ عامّةٍ وتقريريةٍ تصلح لكل عمل؛ فتستطيع تغيير عنوان العمل وكاتبه، وبعض الاقتباسات. وهكذا تحصل على نقدٍ عام، تتخيّل أن صاحبه وضع قالبًا، يُغير فيه بضعة سطور، ويصلح لكل كاتب وكتاب. وهكذا يكتب ما يسمى بهتانًا "نقدًا" بلا طائل. ويُمكن أن يكتب مقالًا جديدًا بعينٍ مجاملةٍ، يبالغ في إظهار محاسن الكتاب بلغة طنّانة، وإذا كنت قد سبق وقرأت الكتاب المكتوب عنه، سيدخلك العجب، وتظنّه يتحدّث عن كتاب غيره، كتابٍ لا يشبه ما كتب عنه. في نقد "مدحي" غريب الأطوار، يستغبي القارئ الذي لن يكون من دون معرفة، فمن ذا الذي يقرأ مقالا نقديًا إلا قارئ متمكّن؟
ويحدث ما هو أسوأ في حالات أخرى "قليلة" لحسن الحظ، أن يختار أحدُهم، أن يصفّي حسابًا، بكتابة مقالٍ يلفّ ويدور فيه في حلقة واحدة: ذمُّ كاتب بغطاء النقد. ظانًا أن مقاصدَه خفيةٌ عن العيون، لكن كيف يخفى ما هو ظاهر للأعمى؟ الحقد لا يمكن إخفاؤه، ولو بدفنه تحت أرض سابعة، ستفضحه الكلمات والجمل. مثلما تفعل دائمًا مع الجاهل، والمتطرّف، والمنافق، وعكسهم، حين تصبح الكلمات دليلًا، وأثرًا لا يُمحى لصاحبها.
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
596D72F8-6B45-4709-8735-7AC0F35F2CE1
عائشة بلحاج

كاتبة وصحافية وشاعرة مغربية

عائشة بلحاج