في ثمانين محمد برّادة

في ثمانين محمد برّادة

10 اغسطس 2018
+ الخط -
مفاجئٌ إتمام الكاتب المغربي، محمد برّادة، قبل أسابيع، عامه الثمانين، فلا علائمَ بدت على الصديق، الناقد والمثقف اللامع والروائي والمترجم والنقابي والقاص، أوحت لنا، في لقاءاتنا القريبة معه، أنه كان يمضي إلى عقده الثامن. وفي المفاجأة هذه التباسٌ خاص، ذلك أننا ندري أنه من مواليد ثلاثينيات القرن الماضي، وأنه كان طالبا جامعيا في النصف الثاني من الخمسينيات. ... في آخر مرّةٍ، التقيت فيها "سي محمد"، قبل أقلّ من عام، في الدّوحة التي تكرّم فيها بنيْل روايته "موت مختلف" (دار الآداب، بيروت، 2016) واحدةً من جوائز كتارا الخمس للرواية العربية، كانت روحُه الشابّة طلقةً، وعلى حيويتها، كما هو دائما منذ تعرّفت إلى شخصه في الرباط قبل أزيد من خمسةٍ وعشرين عاما. بدا لي أنه من السّتّينيين الذين غادروا للتوّ خمسينيّاتِهم. يعود هذا إلى إتقان محمد برّادة فن الحياة، والابتهاج بها، والموازنة بين كل استحقاقاتِها باعتدال، فيظلّ شخصُه ينطق بالاحتفال بالأشياء والوجود والناس. وإلى هذا، يمكن لقارئ مؤلّفاته (وهي قليلة) أن يلحظ فيها احتفالا بالعقل، عندما يكون نقديّا، منصرفا إلى التفكير في تحسين شروط الإقامة في الأرض. واحتفالا بالذات، بفردانيّتها أولا وتاليا، ثم صاحبة دورٍ في مجموعٍ، واحتفالا بالمتعة، من كل مصادرها، بالمرأة، بالأصدقاء، بالمعرفة، باكتشاف المخفي والغامض والبعيد. 

هذه بعض علاماتٍ، في وُسعك أن تقبض عليها في روايات محمد برّادة، وترجماتِه عن التخييل والذائقة والسرد وتنويعاتِه، وفي قصصه، ونصوصه في التذكّر والسيرة، ومقالاته المشتبكة مع أسئلة الراهن، والمتفائلة، غالبا، بالشباب والمستقبل، ومطالعاتِه النقدية أعمالاً روائيةً عربية لأسماء جديدة وقديمة ووسطى، فاستحقّ بذلك أن يُشار إليه صاحب دورٍ خاصّ وكاشف، في اللحظة النقدية العربية الحاضرة، سيما وأنه يُزاول قراءاتِه هذه متحرّرا من سلطة نظريات الأدب والنقد، مكتفيا بالإفادة من الجوهريّ فيها، وهو الخبير فيها، بل من أبرز من ساهموا في رفد الثقافة العربية بإطلالاتٍ مهمّةٍ عليها، إما بترجمة أعمالٍ بارزةٍ بشأنها عن الفرنسية، أو بتقديم إضاءاتٍ عليها تُنير ما يلزم أن يقوم من علاقاتٍ بينها وبين النقد العربي، الجديد والمتجدّد.
يتفرّغ محمد برّادة للكتابة والتأليف والسفر، في مقامه في بروكسل، بعد أن سكن باريس أعواما، وتقاعد عن التدريس الجامعي في المغرب، وكان في غضونِه صديقا لطلابه الذين بلا عدد، معنيّا بالحوار والنقاش معهم، ومهجوسا بالاتصال اليومي مع المستجدّ من قضايا بلده وشعبه، وأمته، وهو المثقف المنحاز إلى عروبيّةٍ تقدّميّةٍ منفتحة. وكان يزاول حضورا نقابيا فاعلا، منتسبا إلى حزبٍ ذي خياراتٍ يسارية. وثمّة دورُه الحيوي في أثناء رئاسته اتحاد كتّاب المغرب، ثلاث دورات، وكانت من أهم مراحل فاعلية هذا الاتحاد (سقى الله!) واستقلاليّته، ومناوشته السلطة. وفي كل هذه الأثناء، كان برّادة يرتحل إلى جغرافياتٍ وثقافاتٍ عديدة، ويسافر، ويكتب، ويترجم، ويُساجل في الملتقيات والمؤتمرات. وبدا، في ذلك كله، مثقفا عموميا نشطا.
ظل "سي محمد" مطبوعا، في مزاجه، بميلٍ مشرقيٍّ ظاهر، وصاحب هوىً مصريٍّ بيّن، وهو الذي نال شهادة التوجيهية من القاهرة التي وصل إليها فتىً، في نحو الثامنة عشر عاما، ثم أقام فيها طالبا جامعيا، حتى تخرّج في 1960. ولا تزيّد في الزّعم هنا إن كتابه الحاذق (والآسر ربما؟) "مثل صيفٍ لن يتكرّر" (دار الفنك، الدار البيضاء، 1999)، من أمتع كتب السيرة الشخصية، سمّاه "محكيّات" في طبعته المغربية الأولى، وسمّاه تاليا روايةً في طبعتيْه البيروتية والقاهرية. فيه تذكّر حميمٌ وغزير، فيه قاهرة الشاب المغربي، يجلس إلى صالون العقاد، ويستمع إلى طه حسين، ويتملّى جمال عبد الناصر، ويحضر حفلة أم كلثوم، هناك حيث فتنة الشاب المغربي الذي يعرف الدنيا وتجاربها الأولى في تلك القاهرة النائية، ثم يعود إليها زائرا في الستينيات وما بعدها، متخفّفا من كل تلك الغواية، وعلى شيءٍ كثيرٍ من مراجعة الأفكار والأحلام الكبرى.. كتابٌ يحضر فيه محمد برّادة، باسم المروّي عنه حمّاد، ثم الناقد والأستاذ الجامعي والمثقف المعروف، باسمِه نفسِه. نصٌّ مفتوحٌ، فيه اعترافٌ جريء وانكشافٌ شجاع، وتأملاتٌ نابهةٌ وحارّة، تصل سراديب الذاكرة بلحظات الحاضر، بسردٍ طلق.
هي تحيّة محبّةٍ هنا إلى المثقف الذي طالما حسبناه، عن حقٍّ وحقيقة، جسرا بين مغربٍ ومشرقٍ عربيّين. هي ثمانون وردة إليه، متّعه الله بالصحة.

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.