لماذا حزِنَ السيسي؟

لماذا حزِنَ السيسي؟

09 اغسطس 2018
+ الخط -
بات واضحاً أن "هاشتاغ ارحل يا سيسي" الذي ظهر نهاية الشهر الماضي (تموز/ يوليو) بلغ حداً من الثقل، بحيث أخذ يضغط على الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، ويجعله يلهج به في سرّه، بدايةً، ثم أوصله إلى درجةٍ لم يعد يتحمل فيها كتمانه في صدره، فتكلم عنه علناً، أمام كاميرات التلفزة وأمام جمهورٍ من المستمعين في مؤتمر الشباب في جامعة القاهرة. وكان اللافت أن تنفيس الرئيس عما يعتمل في صدره أخرجه في صورة حزنٍ أضنى قلبه، ربما لأنه لم يكن يتوقع خروجَ صوتٍ عن أبناء شعبه، الجاري تدجينهم، يطالبه بالرحيل. ولكن، لماذا حزِن الرئيس، وهو الذي أعلن استعداده للخروج من موقع الرئاسة، إنْ أبدى المصريون عدم رغبتهم في بقائه؟
في قرارة نفسه، يعرف السيسي أن كل أدوات القمع والترهيب التي مارسها على شعبه، وحالة الخوف التي أدخل مصر فيها، لم تنفع في إسباغ الشرعية عليه، ولا على نظامه المنقضِّ على الحكم. كما يعرف أن التهليل له ليس سوى لبوسٍ يتقنَّع به المصريون، على الشاشات وفي المهرجانات الخطابية وعلى منابر تلميع صورته، خوفاً من بطشه الذي تنزله قوته "الغاشمة" في شعبه. وهو حين يرسل أقرب الموالين إليه إلى المعتقلات يعرف أنهم ينظرون إليه مقتنصَ السلطةِ، وليس رئيساً شرعياً يستحقّ الموقع الذي وصل إليه عبر أصوات الناخبين، بل الذي جعلته الدبابات يعتليه. أليس ذلك كله موجباً للحزن الذي أصبح الرئيس فريسةً له، وهو الذي يرى في ذلك "الهاشتاغ" ظهور ما كتمه المصريون، طوال فترة وجوده في الحكم، إلى العلن، حيث لم يعودوا قادرين على مزيدٍ من الكتمان.
ليس مردُّ حزن السيسي أن مشاريعه الخرافية، الخلّبية، التي بشّر بها، أو تلك المتواضعة التي افتتحها، والتي أراد بها أن ترفع "شأن" أمة المصريين، لم تنعكس إيجابياً على مستوى 
معيشتهم، ولم تُخرج مصر من أزمتها الاقتصادية التي ازدادت خلال فترات حكمه. وليس مردّه أيضاً أن حالة الاقتصاد المصري بدأت تتدهور، ووصلت قيمة العملة المصرية إلى حضيضٍ لم تصل إليه من قبل، حين خسرت أكثر من ثلاثة أرباع قيمتها أمام العملات الأجنبية. وليس مردّ حزنه، كذلك، أن دافع إطلاق "الهاشتاغ" عدم قدرة الشعب المصري على التحمّل، ووصوله إلى درجةٍ ستجعله يأكل حكامه بفعل الجوع، بل مردّ حزنه أن الخوف لم ينفع في إسكات المصريين، وأن تلك العوامل يمكن أن تجعلهم يخرجون إلى الشوارع لإسقاطه، كما لم يفعلوا زمن من سبقوه إلى حكم البلاد.
ليس من السهل على الرئيس الذي أسكرته حالة العشق التي عاشها الشعب المصري لشخصه ولنظامه، قبل ترشُّحه للانتخابات الرئاسية، وبعد فوزه بها، أن يرى التبدُّل في حال عشّاقه، وتحولهم من الوله به إلى إنكاره، ثم مطالبتهم بالطلاق من محبته. سيسأل ولا شك، إن كان من طالبوه بـ "الفرم" قد تحولوا عنه، وانقلبوا إلى صفّ من يطالبه بالرحيل، بعد أن وصل "الفرم" إلى عتبات منازلهم، واستشعروا أنهم سيصبحون قِطع لحمٍ تنتجها آلاته "الفارمة".
عادةً، لا يلتفت الحكام إلى الدعوات التي تطالبهم بالاستقالة. في البلدان الغربية التي يأتي الحكام إلى السلطة فيها عبر الانتخابات الديمقراطية، عادة ما لا يفعلون، بل إنهم، في أحسن الأحوال، قد يطرحون المسألة على النقاش، وربما يدفعون البرلمان إلى التصويت عليها. أما في بلدان العالم الثالث التي يأتي الحكّام فيها إلى الحكم عبر الانقلابات، في أغلب الأحيان، فهم دائماً ما يتجنّبون الإشارة إلى تلك الأصوات، بل يعملون على خنقها كأنها لم تكن. لكن في حالة السيسي، يبدو أن الأمر أصبح مختلفاً حتى يشير بلسانه إلى ذلك "الهاشتاغ"، وحتى يحزن بسبب ظهوره، ويناقشه علناً أمام الجمهور، وكأنه نوعٌ من جحودِ الشعب الذي لم يقابل تفاني رئيسه سوى بالإنكار.
وعلى الرغم من أنه ليس "الهاشتاغ" الأول الذي يطالب فيه مطلقوه برحيل السيسي، يبدو أن الفترة التي ظهر فيها حرجة، إذ اكتملت فيها صورة نظام السيسي الفاشل على الصعد كافة، فلا بد أن السيسي، في هذه الحالة، يدرك أن الأمر بات جديّاً، فهو يعرف الحالة المزرية التي وصل إليها الاقتصاد في فترة حكمه، كما يعرف الدرجة التي يعاني فيها الشعب المصري جرّاء الضائقة المادية وارتفاع الأسعار التي وصلت إلى مستوياتٍ لم تصل إليها في تاريخ البلاد، ولا سيما أسعار الوقود والنقل وغيره.
كما أنه يعرف أن نظامه لم يقدِّم شيئاً من الناحية الأمنية، فلم تنته مشكلة "الإرهاب" في سيناء. ويعرف أن الجيش الذي بات يسيطر على غالبية مفاصل البلاد الاقتصادية والإدارية، وتضخَّمَ 
حتى باتَ بمثابة دولةٍ داخل الدولة، لم يستطع أن يوصل بلاده إلى مرحلة أمانٍ تجعل البلدان الأجنبية تصنِّف مصر بلداً آمناً، فتعود إليها الاستثمارات وشركات الطيران التي تأتي بالوفود السياحية. كما أنه يعرف أن حالات انتهاك حقوق الإنسان وصلت إلى درجةٍ غير مسبوقة، تجعل مواطني الدول الغربية يخافون أن تطبق عليهم الإجراءات القمعية التي تطبق على المواطنين المصريين، إنْ هم أتوا البلاد سيّاحاً أو مستثمرين، ما جعل مصر تعيش عزلةً عن العالم، أشبه بالعزلة التي تفرضها المقاطعة أو الحصار الاقتصادي.
يعرف الرئيس السيسي، في قرارة نفسه، كل هذه التفاصيل، فهي مجتمعةً تعدُّ فشلاً على الصعد كافة، وتمهد لإعلان مصر بلداً فاشلاً، يتحمّل هو ونظامهم وحدهم السبب في حدوثه. وهي تفاصيل تعد نقضاً لما ثابر على وعد المصريين به، يضاف إلى مرارة ظهور وعوده على شكل أوهام ٍلم تغيِّر في أمر المصريين شيئاً. وهذه حالةٌ كفيلةٌ بأن تجعل المصريين يخرجون عليه، وهو يعرف أنهم سيخرجون، لا محالة، إلا أنه لم يكن يدرك أن خروجهم أصبح وشيكاً كما هو ظاهر، حيث إنه لم يرَ في "الهاشتاغ" المذكور سوى شرارةٍ له. وفي هذه الحالة، أليس من حق الرئيس أن يحزن؟ بالتأكيد، على السيسي أن يحزن، وعليه أن يخاف أيضاً.
46A94F74-0E6B-4FEC-BFDA-803FB7C9ADA6
مالك ونوس

كاتب ومترجم سوري، نشر ترجمات ومقالات في صحف ودوريات سورية ولبنانية وخليجية، نقل إلى العربية كتاب "غزة حافظوا على إنسانيتكم" للمتضامن الدولي فيتوريو أريغوني، وصدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.