الهياط والمياط وما وراءهما

الهياط والمياط وما وراءهما

08 اغسطس 2018

(ناجي العلي)

+ الخط -
ظلت مفردة "الهياط" ملتبسة المعنى في ذهني، إلى حد ما، كلما كنت أقرأها تتردّد على ألسن العرب الخليجيين في مواقع الإعلام الإلكتروني، وهي التي يقولها من يقولها، عادة، للتقليل من شأن مزاعم الآخرين عن قوتهم، أو ما يطلقون من تهديداتٍ بحق جيرانهم، لا سيما في التفاعلات النشطة منذ خمسة عشر شهراً لقرار السعودية والإمارات والبحرين ومصر محاصرة قطر.
لكني لم أشعر، على الرغم من ذلك، بالحاجة إلى البحث عن المعنى الدقيق لهذه الكلمة، غير المتداولة في لهجاتنا، نحن أهل بلاد الشام، أو "عرب الشمال" وفق تصنيف استحدثه من سأسميهم الانعزاليين الجدد في شبه الجزيرة العربية، إلا بعد اندلاع ما توصف الآن بالأزمة الدبلوماسية الكندية السعودية؛ انتقدت أوتاوا سلوك الرياض القمعي بحق معتقلين في سجونها، ودعت إلى إطلاق سراحهم، فردّت الأخيرة بإجراءات دبلوماسية واقتصادية، بدت أكبر بكثير مما يستحقه الخلاف الطارئ، ثم سرعان ما انهمر على "تويتر" وفيسبوك" سيلٌ عرم من الفخر والتباهي بالسيادة والحزم والعزم، كان من شأنه أن استدعى، لدى منتقديه، ترديد مفهوم "الهياط"، ومعه وجدت نفسي أرجع إلى معاجم اللغة، باحثاً عما يجلي بقايا الغموض عن علاقة الكلام بالواقع.
ووفق المعجم الوسيط، ومعجم المعاني، فإن الهِيَاط أو المُهايَطة هو مصدر الفعل هايَطَ الذي يعني ضَجَّ، ويقال هايَطَ جاره، أي استضعفه، كما يقال؛ هم في هِيَاطٍ ومِيَاط، أي في شر وجَلبة، أو في إقبال وإدبار.
ثمة إذن مسافةٌ ما، وإن تكن ليست كبيرة، بين المعنيين، الشائع والمعجمي، لكلمة الهياط، غير أنهما تلتقيان، كما يبدو، في الدلالة على ضجيج الأشرار، أو استضعافهم الآخرين، دونما مبرّر، وذاك يكفي ربما لإثارة التساؤل المضحك عمّا إذا كانت السعودية، بإحداثها كل هذه الجلبة، تستقوي على كندا، فتتخذ ضدها إجراءاتٍ شديدة الحدّة رداً على انتقادات، سبق أن تلقت مثلها، وأكثر، من الولايات المتحدة وبريطانيا، ودول غربية أخرى، فلاذت بالصمت؟
أما الجواب المبكي، فلن يستقيم معه طبعاً استحضار مفهوم السيادة، في عهد رئيس أميركي ما انفكّ يتفاخر علناً بقدرته على "حلب السعودية" في مقابل حمايتها، كما لا يستقيم معه أيضاً استذكار كلمة الحزم، وقد ارتدت العاصفة الحربية التي تُكَنَّى به وبالاً على مطلقيها، وباتت سفن بلاد الحرمين، وناقلات نفطها، وقواعدها العسكرية، أهدافاً سهلة لمليشيا الحوثيين، ذات القدرات القتالية المتواضعة، ناهيك عن أن مفردة العزم صارت لا تشير إلى شيءٍ، قدر ما تشير إلى نية الاستجارة بإسرائيل أو التحالف معها، بحجة مواجهة إيران.
في المقابل، يصعب رؤية التصعيد السعودي للأزمة مع كندا، بمعزلٍ عن التوتر الذي شاب أخيرا علاقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب برئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو، كما يصعب تبرير كل هذا التّشنج رداً على انتقاد حقوق الإنسان في دولةٍ لم يمنعها زعمها قيادة العالم الإسلامي من أن يتّسع صدرها لتتفهم الاعتراف الأميركي بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتتعامل معه بدبلوماسية شديدة الهدوء، إنْ لم تكن أكيدة التواطؤ.
الاستقواء على كندا، والحال هذه، يقدّم دليلاً نقيضاً على ما يُراد منه، ويفضح العجز الذي تعاني منه السعودية في مواجهة دول أخرى، ومؤسسات حقوقية متعدّدة، ما فتئت تكشف زيف شعارات الإصلاح المقترنة بانتهاك حقوق المعارضين السياسيين. إنها تهاجم كندا، الدولة الكبيرة، ولكن المسالمة، لأنها لا تستطيع أن تقول لأميركا أو بريطانيا؛ "ثلث الثلاثة كم". ولعل في ذلك ما يعيد التذكير، وإنْ من باب المفارقة، بكاريكاتور للفنان الشهيد ناجي العلي، رسمه قبل نحو أربعة عقود؛ نصحوه حين كان في الكويت بالكفّ عن انتقاد أميركا، بعدما احتجت سفارتها على رسوماته، فنشر في اليوم التالي رسماً لفلسطيني يحمل يافطة مكتوب عليها "فلتسقط جارة كندا".
EA99C928-BF02-4C77-80D6-9BE56F332FDE
ماجد عبد الهادي

صحفي وكاتب فلسطيني