الرد التركي والعنجهية الأميركية

الرد التركي والعنجهية الأميركية

07 اغسطس 2018
+ الخط -
قد نختلف حول أسلوب إدارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للأوضاع الداخلية في بلاده، لكن إصراره على عدم التنازل للضغوط الأميركية يجعل منه قائدا غير عادي، في ظروف دولية اختلطت فيها جميع الأوراق، وتعدّدت المخاطر من كل جانب.
قد تكون للأزمة الراهنة بين البلدين، بسبب القس الذي تتهمه أنقرة بالتجسّس ودعم خصوم النظام، تداعيات سيئة على تركيا. ولكن في المقابل لا يمكن تبرير السياسة التي تتبعها الإدارة الأميركية تجاه أحد أهم حلفائها داخل حلف شمال الأطلسي (الناتو)، فواشنطن لا تريد الاعتراف بأن تركيا تغيّرت، وأنها لم تعد ذلك البلد الطيّع الذي لا يعصي أمرا صادرا من البيت الأبيض. لم يعد المزاج التركي العام يقبل الوصاية الغربية الفجّة، فما يصدر عن أردوغان ليس فقط إرادة شخصٍ يحنّ إلى الخلافة العثمانية، وإنما يعكس أيضا رأيا عاما متمسكا بقوميته، ويعتبر أن من حق بلاده التمتع بجميع حقوقها، والدفاع عن مصالحها الحيوية. وأهم دليل على ذلك وقوف "حزب الشعب" إلى جانب منافسه، حزب العدالة والتنمية، في هذه المواجهة الأساسية والرمزية، على الرغم من الخصومة التاريخية القائمة بينهما.
لهذه الأزمة وجهان: يتعلق الأول بتغير موقف أميركا من حركات الإسلام السياسي، ولا يعود ذلك فقط إلى تنامي الحركات العنيفة التي اعتمدت الإرهاب منهجا لها، وإنما وسّعت الإدارة الأميركية الحالية من نطاق هذه المواجهة، لتشمل معظم الطيف المنتسب لهذه الدائرة الأيديولوجية، فلم يعد يهم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، اعتدال الفكر الديني المناهض للانغلاق والتعصب، والاشتباك الجاري حاليا مع تركيا ليس خلافا فكريا أو أيديولوجيا، وإنما سياسي بامتياز. هناك سبعة ملفات شائكة بشأنها تباين شديد في المصالح بين الطرفين، ولا علاقة لأي منها بالإسلام.
مشكلة ترامب مع تركيا أن الحليف السابق أصبحت له مخالب، ويحرص على الدفاع عن مصالح بلاده المتعارضة اليوم مع مصالح الإدارة الأميركية الحالية ومع توجهاتها الاستراتيجية. وبما أن المسألة تتعلق بالتوجهات الكبرى بشأن الخريطة الإقليمية، وإعادة توزيع مراكز النفوذ، لم تعد تهم ترامب كثيرا مسائل التطرف والاعتدال، بقدر ما يهمه منطق الربح والخسارة ومنهج القوة والسيطرة.
في هذا المنعرج بالتحديد، كشفت الإدارة الأميركية عن الوجه الحقيقي لأكبر دولة تريد أن تحتكر قيادة العالم، وتسيطر على جميع ثرواته، أي وجه الرأسمالي الجشع والمحارب للجميع.
الوجه الثاني للاشتباك الأميركي التركي أنه ليس الوحيد من نوعه، وإنما هو جزء من بين خلافات كثيرة فجّرها البيت الأبيض مع حلفاء تاريخيين للولايات المتحدة. من ذلك خلافاتها مع كندا وألمانيا وأستراليا ودول أخرى عديدة. لقد قرّرت الإدارة الأميركية فرض شروطها على الجميع، وليس فقط على الأعداء، بما في ذلك أقرب الدول إليها. إذ يعتمد منطق ترامب على وضع مصالح بلاده فوق كل اعتبار، وعلى البقية إعلان الطاعة والانضباط بدون نقاش أو عناد، لكنه اكتشف أن منطق القوة يؤدي إلى تمرّد الأصدقاء، وأن العقوبات التي بدأ يطبقها عليهم بشراسة، ومن دون الأخذ بالاعتبار مصالحهم الحيوية دفعتهم إلى ممارسة السياسة نفسها ضد بلاده، بما في ذلك تسليط عقوبات من الجنس والحجم نفسيهما ضد المصالح الأميركية.
ستتأثر تركيا بالتأكيد بالعقوبات المعلنة أخيرا، لكنها ستتأثر أكثر لو سكتت على الإرادة الأميركية وسايرتها. ليس التعامل بالمثل عند المقدرة دائما غباء ومجازفة، لأن الدول والقادة يكسبون مزيدا من الأهمية والاحترام عندما يُحسنون إدارة المواجهات الاقتصادية والدبلوماسية، مهما كان حجم الخسائر، وليست تركيا استثناء في هذه القاعدة، فهي تحتل مكانة أساسية في حلف شمال الأطلسي، ولا تستطيع الإدارة الأميركية التخلي عن عضوية أنقرة في هذا التحالف العسكري الضخم. كما أن لتركيا خيارات مفتوحة، وما إقدامها على الخطوات التي قطعتها أول مرة في تاريخ علاقاتها بالغرب في اتجاه روسيا والصين إلا دليل على ذلك، فهل يستفيد حكام المنطقة مما يجري، أم أنهم سينتظرون كالعادة هزيمة أردوغان وحزبه ليظهروا شماتتهم، ويلتفتون إلى شعوبهم قائلين "أرأيتهم جزاء كل متنطع عنيد"؟
266D5D6F-83D2-4CAD-BB85-E2BADDBC78E9
صلاح الدين الجورشي

مدير مكتب "العربي الجديد" في تونس