المهاجر الذي تريده فرنسا

المهاجر الذي تريده فرنسا

06 اغسطس 2018

ألكسندر بنعلا..يشعل قضية المهاجرين في فرنسا (16/7/2017/فرانس برس)

+ الخط -
حدثان متزامنان صنعا شعوريْن مختلفين في فرنسا، الفرحة العارمة والشّك الذي يصعد إلى السطح والشبيه بالطبيعة الفطرية التي يحاول بعضهم إخفاءها. إنهما، من ناحية أولى، الاحتفال الكبير بفوز فرنسا بكأس العالم، للمرة الثانية، بجيلٍ من اللاعبين البارعين من أصول أفريقية، في غالبيتهم، حتى قيل إن القارة الأفريقية هي من فازت بالكأس. ومن ناحية ثانية، قضية الحارس الشخصي للرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، ألكسندر بنعلا، ذي الأصول العربية، والذي أضحى، الآن، قضية دولة بامتياز، بعد قيامة باعتداء وُصف بالوحشي على رعيتين فرنسيتين، في أثناء مظاهرات الأول من مايو/ أيار الماضي المصادف عيد العمال.
يمكن الاستعانة، في الرياضة، بالإبداع أيا كانت أصوله، قصد الوصول إلى التتويج وصنع الفرحة، وهو ما قامت به فرنسا للمرة الثانية في أكبر حدث رياضي عالمي، كأس العالم لكرة القدم. في المرة الأولى، عام 1998، استعانت بفريقٍ متكوّن من مهاجري الجيل الثاني الأفارقة (مغاربيون ومن أصول أفريقية)، وصنع ذلك تماسكا وصف بالمعجزة الفرنسية في الاندماج.
ولكن، عند الغوص عميقا في المجتمع الفرنسي، نجد الأمر مختلفا تماما، وعلى المستويات كافة، سواء في التمثيل السياسي (نسبة قليلة من نواب الجمعية الوطنية من المهاجرين)، الاقتصادي (نسبة بطالة مرتفعة بين الفرنسيين والمُجنّسين من أصول أفريقية) الاجتماعي
(النّخبة الفرنسية السياسية والثقافية - العلمية متكونة بصفة تكاد تكون خالصة من الفرنسيين) أو التعليمي (نسبة الإخفاق الدراسي مرتفعة لدى المهاجرين، إضافة إلى تدني نسبة الالتحاق بالجامعات والمعاهد المنتجة للنخبة).
لم يبق، في الحقيقة، إلا الميدان الرياضي (والفني الاستعراضي، نوعا ما)، وهو الميدان الذي استطاع، من خلاله، بعضهم تجاوز تلك العقبات لصنع الحضور. وعندها، فقط، يُقال عنهم إنهم فرنسيون، ويُحتفى بهم، كما حدث، بالنسبة للمغاربيين، للاعب ذي الأصول الجزائرية، زين الدين زيدان، على الرغم من أن أباه لا يمتلك، إلى الآن، بعد حضور على الأرض الفرنسية يُقدّر بستة عقود، حقّ الاقتراع في الانتخابات، باعتباره مهاجرا من خارج الاتّحاد الأوروبي.
وقد لخّص زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية، السياسي المخضرم اليميني المتطرّف، جان ماري لوبان، الموقف بجملته الشّهيرة: "لا أرى بين صفوف المنتخب لاعبا واحدا فرنسيا"، كما اتهم المجموعة التي فازت بكأس العالم لعام 1998 بأنها لا تغنّي النشيد الوطني الفرنسي، وخصوصا زيدان، في إشارة إلى كرهه الشديد كل ما هو مغاربي عموما، وجزائري خصوصا، كونه خاض الحرب الفرنسية في الجزائر (الحرب التحريرية الكبرى 1954-1962)، ويعد من المتهمين في قضية تعذيب المجاهد الكبير العربي بن مهيدي، ثم قتله.
وقد عادت القضية، مرة أخرى، بمناسبة كأس العالم في روسيا، بعد فوز المنتخب. ولكن بالمنهجية نفسها في الاعتماد على براعة لاعبين من أصول أفريقية خالصة، ما دفع بعضهم إلى القول إن الفوز كان للقارة الأفريقية، وهو ما تم رفضه فرنسيا، حيث تحدثت الصحف والإعلام ووسائل الاتصال الاجتماعية حول مفهوم الفرنسي المندمج، بغض النظر عن أصوله الاجتماعية، إذ أنّ المهم هو حمل فرنسا وهويتها وقيمها في القلب، والدفاع عن ذلك كله.
تزامن ذلك الفوز، وهو بيت القصيد، بالنسبة لتحديد اللحظة الفاصلة للاحتفال بالمهاجر أو انتقاده، وإرساله إلى الحضيض، مع بروز قضية ألكسندر بنعلا، الحارس الشّخصي للرّئيس الفرنسي، والذي أشارت مصادر، في وسائل التواصل الاجتماعي، إلى أنه من أصول عربية، في إشارة إلى الطبيعة الفطرية فيمن هو من تلك الأصول للقيام بذلك.
على الرّغم من عدم انجرار الصّحافة الفرنسية والإعلام، بصفة عامّة، إلى ذلك، إلاّ أنّ إشارات ضمنية سياسية، وأخرى إعلامية، نبشت بذلك، ليظهر التناقض الفرنسي في التعامل مع المهاجر المنتصر والمهاجر الذي، بمجرّد وقوع الخطأ منه، كما يقع من أي أحد، ليُقال عن الأول، في حال الانتصار "فرنسيا" وعن الآخر، في حال الخطأ والإخفاق، "فرنسي من أصول..."، وهو، ضمنيا، إخراج لذلك الفرنسي من دائرة الهوية الجامعة بوقوع أي طارئ سلبي (من دون التغاضي عن أن ما قام به ذلك الحارس هو من قبيل السلوك الذي يعاقب عليه القانون).
عاني ويعاني مغاربيون كثيرون، بصفة خاصة، من هذا الشعور. وتحدث كثيرون منهم عن نقص إمكانات الاندماج، بل رفض المجتمع الفرنسي لهم حيث يُطالبون، دوما، بالجهد المُضاعف للوصول إلى أدنى ما يصل إليه الفرنسي العادي، كما اشتكوا من التمييز في المعاملة، في كل مكان، وخصوصا عند التوظيف، التقدّم لإيجار شقة أو للالتحاق بالمعاهد والمدارس الجامعية العليا.
يمكن، إلى حد ما، فهم ذلك التناقض الشعوري الذي وقع فيه الفرنسيون، فهم لم يستوعبوا كيف يتعاملون مع فـرح السلوك العنصري الطبيعي وعودته، في آن واحد، إزاء مهاجرين سمحت براعة بعضٍ منهم في فوز فرنسا بكأس العالم وآخرين (الحارس الشخصي) ببروز التعامل الفظ مع متظاهرين، أظهرت الصور أنهم من الفرنسيين. ما تغاضى عنه الإعلام، ولم يتحدث عنه، بعد: ما هي أبعاد القضية، لو أن المتظاهريْن اللذين أظهرتهما الصور يُضربان من بنعلا كانا من أصول أفريقية أو مغاربية؟
في الحقيقة، كان المتظاهران يعنفّان في رجال الشرطة، وهي الظروف نفسها التي يتدخّل فيها أولئك وبشدّة، بالنظر إلى أن ذلك اعتداء على الملك العام، وعلى رجال الأمن، وهناك ظروف تسمح بالتدخل بطرق قانونية. لكن الظروف، هنا، خاصة، والمتظاهرون من فئة خاصة، والمُهاجم، إضافة إلى صفته، تلعب على وتر أصوله تياراتٌ سياسيةٌ يمينيةٌ شعبوية متطرّفة، والتي تتناغم معها، وخصوصا في المواعيد الانتخابية، أو في فترات أزماتية، على غرار ارتفاع نسبة البطالة وتباطؤ تعافي الاقتصاد الفرنسي.
لفهم القضية بشكل أعمق، تزامن الحدثان مع حادثة مشابهة. ولكن، هذه المرة، في ألمانيا، التي عبر فيها لاعبُها الدولي، من أصول تركية، مسعود أوزيل، وبعبارة واضحة، عن ظاهرة الافتخار عند الفوز والنجاح، وتصاعد مشاعر العنصرية عند الهزيمة، وخصوصا إذا خالط ذلك عداء سياسي لم يعرف اللاعب كيف يديره (استقبال الرئيس التركي له، في فترة أزمة في العلاقات بين ألمانيا وتركيا).
هل يمكن الفصل بين العنصرية وبروز تلك الظواهر مع تحديد ضحية واحدة، المهاجر، أم أن ذلك مجرّد تزامن ضخّمته وسائل الاتصال الاجتماعية؟ يمكن الإجابة بالتركيز على عوامل تصاعد تلك الموجة، مرافقة لتصاعد تيار الشعبوية التي يُدرك من خلالها الآخر بأنه مهاجر سيأتي يوم ويغادر، ولا يمكن تخيل، ألبتة، بأنه قابل للاندماج أو الانصهار في قيم يحرّكونها لخدمة الصورة النمطية عن "الآخر"، بكل أبعاده الثقافية والحضارية.
يؤثر ذلك التيار على نقل تلك الصورة النمطية وانعكاسها، واستخدامها أو تطويعها للاستخدام، وفق هوى الزمن وتقلبات منحنيات الإشكاليات الاجتماعية والاقتصادية الغربية. وقد انعكس ذلك، كله، في التعامل مع أولئك المهاجرين، في حالات أداء بعض الخدمات للمجتمع الذي يوُجدون فيه، ولكن من دون إمكانية للاندماج، ولو بعد عقود من العمل في بلاد المهجر.

هناك صورة أخرى لذلك التناقض في التعامل مع المهاجرين، وهو التفريق بين الجيل الأول والأجيال التالية، حيث مُنحت للأخيرة حقوق، وفرضت واجبات عليهم، ولكن من دون أن يصل ذلك إلى الانصهار التام في قيم المجتمع الغربي، حيث لا يُذكر أحدهم إلا بذكر أصوله، وهو إيماء إلى أن ثمة فضلا لفرنسا والغرب على أولئك، وبأنهم، في نهاية المقام، ليسوا أهلا للظهور بمظهر الفرنسي الأصلي، وهو ما عبّر عنه سياسيون فرنسيون، من كل التيارات السياسية، صراحة إلى درجة أن فرنسا وُصفت، في السنوات الأخيرة، بأنها اتجهت، والغرب عموما، أيضا، إلى اليمين فكريا وحضاريا. إنه التصادم/ الصدام الحضاري، حقا.
ختاما، يمكن القول إن الطبيعي في الإنسان الغربي، عند رؤيته للآخر، هو العنصرية، في الغالب، بالنظر إلى صورةٍ نمطيةٍ قديمةٍ، يتم تناقلها جيلا بعد جيل، والاستثنائي، ولو بعد زمن، هو زوال تلك العنصرية، ودليل ذلك أن الشعبوية تيار يتعايش مع كل المجتمعات الأوروبية، والغربية عموما، من دون التفريق بين مجتمعاتٍ عرفت كيف تدمج مهاجريها وأخرى تبقيهم على الهامش إلى حين. ... عودتهم من حيث جاؤوا، وتلك قضية أخرى.