ثمانية آلاف وردة مع مي

ثمانية آلاف وردة مع مي

05 اغسطس 2018
+ الخط -
ربما لم يعرف الوسط الفني العربي، وخصوصا التمثيل المسرحي والتلفزيوني والسينمائي، اسما استطاع أن يكون مزيجا من جودة فنية عالية لا أحد ينكرها، ولشخصية ثورية حقيقية تبنّت موقف المثقف الثوري، وآمنت بالثورة فكرا وثقافة وفنا، ودافعت عن إيمانها بشراسة المثقف الثوري، وبشراسة امرأة قتل الظلم أبناءها، مثلما فعلت الفنانة والإنسانة المثقفة الثائرة مي سكاف. وربما لم تعرف الثورة السورية المغدورة قامة، ووجها، وصوتا، وبحّة، وعيونا، ودموعا، تسند إليهم وجعها، مثلما عرفت شخصية مي سكاف.
لم تكن مي تتكلم عن ثورتنا الذبيحة بكلماتٍ أو خطابات مجعجعة، كانت تعيد في كل لقاء أو حوار معها صوت الضحايا في صوتها، وبحّة المعتقلين الذين بحّت قلوبهم من النداء. كانت تقول رأيها بدموع لم تجفّ، دموع كل أم دفنت قلبها تحت التراب.
مزيج من الألفة والحنان، ومن القوة والشراسة، هي مي سكاف، قامة طاعنة بالعزّة والقهر، طاعنة بالأمل والوجع، بالتحدّي والخذلان، بالحياة والموت.
مي التي ولدت في أحد أحياء دمشق من أصل أرمني، ومن أم تعود لعائلة مسيحية عريقة ومثقفة، وأب ينتمي لعائلة مسلمة متمرّدة على نظام القهر والديكتاتورية، ومي التي كبرت في حضور ابن خالتها، المسرحي الكبير سعدالله ونوس، في حياتها، وحضور ثقافة مسرحه الثوري التي حكمت عليها وعلينا بالأمل، ومي التي درست الأدب الفرنسي، وأتقنته، لتفتح لروحها نافذه أخرى تطل منها على العالم، هي مي التي شكلت نموذجا حقيقيا للعمق المعرفي والحضاري الذي يملكه الإنسان السوري، ولعمق ثقافة التعدّدية التي عاشها هذا الإنسان بوعي فطري وعفوي، والتي حولته إلى نموذج غير متكرّر في العالم الحديث.. كل هذا جعل صوت مي سكاف، حين تتكلم تخرس كل الأصوات التي تقزم الثورة السورية، وتحصرها في خانة البعد الديني الإسلامي المتطرّف، فحين تتكلم مي سكاف على أدونيس أن يسكت.
ومي هي الفنانة التي صعقت موهبة التمثيل لديها كل من رآها، مع أنها لم تدرس التمثيل ولم 
تكن يوما أكاديمية، لكنها كنت تمتلك ملامح جامعة بين الجمال الأنيق والقوة المؤثرة القادرة على تقديم نفسها بشكل حقيقي، كفرس تصهل.
ماتت مي غريبةً عن شامها وحاراتها، ماتت مقهورةً ومخذولةً بانفجار شرايين حاد، ولم تحفل ساحات الفضاء الأزرق بصورة امرأة وفنانة عربية كما حفلت بصورتها، ولم يكن ذلك غريبا أو غير متوقع، فلا أحد، حتى من موالين للنظام السوري الفاشي، قادر على عدم احترام مي سكاف، وعلى عدم احترام جرأتها، وصدقها، وصلابتها. ولا أحد من كل أطياف المعارضة يقدر على إهمال شخصية مي، أو على الهروب من وضوحها وعمق ثقتها بعدالة موقفها الأخلاقي. ولكن ما لم يكن متوقعا أن تدفن مع جثة مي في مدينتها الفرنسية القريبة من باريس ثمانية آلاف وردة، تعبيرا عن أرواح ثمانية آلاف شهيد تحت التعذيب في زنازين أسوأ نظام عرفته البشرية، ثمانية آلاف وردة لثمانية آلاف اسم أرسلهم النظام السوري، في أسبوع، إلى مديريات السجل المدني في المحافظات السورية، من دون أن تهتز هذه الأرض العاقر، ثمانية آلاف نيزك تسقط فيها من دون تشييع، من دون جثة، ومن دون أن تنكسر السماء.
مي فقط هي التي دافعت في حياتها عن كل الشهداء، وخصوصا الشهداء تحت التعذيب، تحميهم اليوم جثتها من النسيان، فقد دعا ابنها الوحيد جواد، على صفحته في "فيسبوك"، كل الأحرار في العالم، وكل أصدقاء روح مي سكاف، أن يشاركوا في تشييعها من ساحة المدينة الفرنسية، ثم يمضوا معها في رحلة يجوب فيها عشها شوارع المدينة، ثم يصلوا معها إلى المقبرة، ويقيمون عزاءها الذي يبدأ بكلمة محافظة المدينة الفرنسية، وبعدها يلقي كل شخص وردة في قبر مي، لروح كل شهيد تحت التعذيب، قضى في سجون الأسد، كل وردة تحمل اسما، ثم تشيع إلى قبرها كأنها جثة هذا الاسم التي لم يشيّعها أحد، والتي لا يعرف أحد أين هي، والتي يسكت العالم، كل العالم، بكل منظماته وشعاراته الإنسانية التي يتشدّق بها، عن أكبر هولوكست يعيشه هذا القرن.
مي التي أحيت، بدموعها وبحتها وحرقتها، أسماء الذين رحلوا بلا أسماء، ها هي اليوم تحيي بجتثها جثثهم وتدفنهم معها ليصبح قبر مي سكاف الفرنسي قبرا لثمانية آلاف روح رحلت هناك في بلدها سورية، في ظلام سجون الطاغية، من دون صوت، لثمانية آلاف عصفور طاروا معا، وأغلقوا علينا وجه السماء، ولجثة ماتت صاحبتها من تعاطي جرعةٍ عاليةٍ من القهر، أدت إلى ارتفاع حاد في مستوى اليأس، ما أدى إلى توقف مفاجئ للكون.
كعادتك مي، لن تكوني وحدك، في قبرك الواسع ثمانية آلاف وردة. وكعادتك، عيونك مفتوحة.
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
E928EA8B-DC47-4385-9F66-8409C3A306CB
ميسون شقير

كاتبة وإعلامية سورية

ميسون شقير