خيارات الأردن أمام تغوّل تل أبيب وواشنطن

خيارات الأردن أمام تغوّل تل أبيب وواشنطن

01 سبتمبر 2018
+ الخط -
في وقتٍ يواجه الأردن استحقاق مكافحة الفساد، ويخوض حملةً قضائيةً منهجيةً ضد هذه الآفة البغيضة، من أبرز عناوينها قضية الدخان (التبغ)، فإن ثمّة استحقاقاتٍ أخرى تتعلق بالسياسة الخارحية، وبصفقة دونالد ترامب وجاريد كوشنير، المسمّاة إعلامياً "صفقة القرن" التي بوشر تنفيذها قبل الإعلان عنها. وهي خطةٌ بالغة الخطورة، تستنسخ أجندة أقصى اليمين الإسرائيلي، وتُسبغ عليها صفة أميركية، في تصفية قضية اللاجئين، ودوام الاستيلاء الإسرائيلي على القدس المحتلة، بعد تسليم إدارة ترامب بتسمية الاحتلال المدينة عاصمة له. وتتفرّع عن ذلك مسائل أخرى، مثل التخطيط الجاري تنفيذه للاستيلاء على المسجد الأقصى، وتكرار تجربة المسجد الإبراهيمي في الخليل، بما يسمّى التقسيم الزمني والمكاني. بحيث يُتاح لليهود في الأقصى ما يُتاح للمسلمين، مع السيطرة الأمنية المطبقة للاحتلال على المسجد وما حوله. ومن هذه المسائل التي "تفرض نفسها" البند الوارد في ملحق معاهدة السلام الأردنية الإسرائيلية، المتعلق بأرض الباقورة شمال البلاد، والباقورة مؤجرة للاحتلال 25 عاما لغايات الاستعمال "الزراعي والسياحي"، وقد سرت الاتفاقية منذ العام 1995، وتقضي الاتفاقية بإبلاغ الطرف الآخر قبل سنةٍ من انتهاء العقد عن الموقف من مستقبل التأجير. وهناك أرضٌ أخرى هي الغمر، وتقع في وادي عربة، جرى تأجيرها أيضا، وفق الاتفاقية الملحقة بالمعاهدة، لكنها لا تُستغلّ لأغراض الزراعة والسياحة، بل لأغراض أخرى..
أثيرت المسألة في مجلس النواب، ووعد وزير الخارجية، أيمن الصفدي، بإبلاغ المجلس بالقرار الحكومي (بالتجديد أو عدمه كما قال) قبل نهاية العام الجاري. وكان الصفدي قد أوضح أن 
أراضي الباقورة تعود إلى ملكياتٍ إسرائيليةٍ خاصة منذ العام 1926، أما أراضي الغمر فتعود إلى خزينة الدولة. ونبّه الوزير إلى أن "السيادة على الباقورة والغمر للأردن، وتوجد حقوق استعمال تحت إشراف الدولة الأردنية، وبما يحقق السيادة الأردنية".
وتحلّ في أكتوبر/ تشرين الأول المقبل ذكرى المعاهدة التي جرى توقيعها في العام 1994 في وادي عربة جنوب البلاد، ولهذا تحمل المعاهدة إعلاميا اسم الوادي الذي يقع شمال مدينة العقبة، ويعتبر جزءاً من محافظتها. وبعد 24 عاما على هذا الحدث المفصلي، يكتشف الأردنيون أن الدولة العبرية قد اشتدّت عدوانيتها وزادت وتيرة تطرّفها، وأنها لا تأخذ المصالح الأردنية في الاعتبار، وأنها استخدمت المعاهدة من جانبها لبث مزاعم سلمية، لا وجود لها على أرض الواقع، وللتغطية على مشاريع الاستيلاء على القدس وتصفية القضية الفلسطينية. وهو ما يرفضه الأردن على جميع المستويات، ويشدّد على الحل العادل وفق القرارات الدولية، غير أن التمسّك الأردني بهذه المبادئ لا يمنع التغوّل الإسرائيلي الذي ارتفعت حدّته مع تشكيل فريق الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، لهذا الجزء من المنطقة، وهو فريق يرى الحلول من منظور اليمين الإسرائيلي الأشدّ تطرفا، ولا يأخذ علما بالقرارات الدولية وبأحكام القانون الدولي. ويرغب هذا اليمين، مؤيّدا من فريق ترامب، بتصفية القضية الفلسطينية، وإنهاء وجود وكالة غوث وتشغيل اللاجئين (أونروا)، مع دعوة الأردن إلى نزع صفة لاجئ عن مليوني نسمة يقيمون في الأردن. والحجّة التي يسوقها أركان الإدارة أن صفة اللجوء غير قابلة للتوريث للأبناء والأحفاد. ووفق هذا التفكير العبقري، فإن قضية اللجوء والتشريد تموت بالموت البيولوجي للجيل الأول من اللاجئين، وهي طريقة فذّة حقا في التفكير! إذ يكفي انتظار أمد ٍمعلوم من الزمن (خمسة أو ستة عقود مثلاً) كي تُطوى الصفحة، ويصبح الأبناء والأحفاد بغير حقوق في وطنهم الذي شُرّد آباؤهم وأجدادهم منه، وحُرموا هم من الإقامة على أرضه!
وترتقع، في هذه الأثناء، أصوات نيابية وسياسية وإعلامية أردنية تنادي بعدم تجديد عمليتي التأجير. وتذهب أصوات أخرى إلى حد المطالبة بإلغاء المعاهدة، إذ لا يمكن أن يشيع مناخٌ من السلام في أجواء الاستيلاء على القدس وتصفية قضية اللاجئين، وإعلان الحرب المستمرّة على شعب فلسطين في أرضه المحتلة. وعلى الرغم من أن اللاجئين في الأردن يحملون الجنسية الأردنية، إلا أن ذلك لا ينتقص من حقوقهم الثابتة في وطنهم، شأنهم شأن بقية اللاجئين الذين يحملون جنسياتٍ أخرى. ولهذا تعتبر قضية فلسطين، إلى كونها قضية أبنائها، فهي أيضا قضية أردنية محلية، نظرا للعدد الكبير من اللاجئين، وممن هم من أصول فلسطينية ويتمتعون بالجنسية الأردنية.
وتبدي الإدارة الأميركية الحالية قدراً كبيراً من سوء الفهم للموقف الأردني، وتجاهلاً للحقوق الأردنية المتصلة بالمسألة الفلسطينية. ولا تلقي الإدارة المضطربة في واشنطن بالاً للحقوق 
الأردنية في الوصاية على الأماكن الإسلامية والمسيحية في القدس، وهي وصايةٌ لا تجيز على الإطلاق، لأتباع دين آخر انتهاك حرمة هذه الأماكن، والسعي إلى السيطرة عليها. ويمثل ذلك تحدّيا رمزياً ومعنوياً جسيما للأردن، وذلك مع ورود الأنباء اليومية عن عمليات استباحةٍ مقزّزة تتم بحراسة شرطة الاحتلال، مع التنكيل بموظفي الأوقاف، وبالمرابطات المقدسيّات المسلّمات اللواتي يسهرن على حماية المسجد الشريف.
أمام ذلك، يعتبر إلغاء المعاهدة أمراً فوق طاقة الأردن، ويتعاكس مع مبدأ احترام الالتزامات الدولية، غير أن هذه الالتزامات (أو بعضها بصورة أدق) قابل للمراجعة، كحال الأراضي المؤجّرة، فحتى مع وجود مُلكيات خاصة للطرف الآخر، فذلك لا يعني تلقائياً الحقّ في مباشرة استعمالها، فهذا "الحق" مرهونٌ بالظرف السياسي وببيئة الحلول السلمية العامة، أو انتفاء هذه الحلول، وبانعكاس مسألة التأجير على الرأي العام، وعلى التماسك السياسي والاجتماعي الداخلي.
ويملك الأردن، حيال التغوّل الإسرائيلي المتمادي، فرصة إعادة النظر في علاقته مع الجانب الآخر، بما يتعلق بمستوى التطبيع الرسمي ومجالاته، كما يملك فرصةً تخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية من أجل ممارسة ضغط مشروع على الطرف الآخر. ويدرك المسؤولون الأردنيون ذلك خير إدراك، لكنهم لم يتقدّموا بعد للعمل بمقتضاه. والتطورات المنتظرة في غضون الأشهر، وربما الأسابيع، المقبلة، تُملي تفحصّ الخيارات، واعتماد أكثرها فاعلية، فالاحتقان الشعبي في الشارع الأردني إزاء الغطرسة العنصرية للاحتلال، والتماهي الأميركي معها، بلغ مداه.