موسم التراشق المقدّس عن التجربة الناصرية

موسم التراشق المقدّس عن التجربة الناصرية

04 اغسطس 2018
+ الخط -
يزداد التراشق في مصر كل عام على وسائل التواصل الاجتماعي عند حلول ذكرى ما حدث في 23 يوليو/ تموز 1952، وهذا العام كان أكثر حدّة، فقد زادت أعداد المجموعات التي تتحسّر على عصر الملكية، وكذلك المقارنات عن تفوق الاقتصاد المصري قبل عام 1952 وقيمة الجنيه المصري أمام العملات الأخرى، وكيف أن مصر كانت دائنةً لبريطانيا العظمى في ذلك الوقت، وكذلك حال التعليم الجيد قبل يوليو ذلك العام، وهو التعليم الذي أنتج عباقرة ومفكرين، وحال الطرق والنظافة والمباني الجميلة والنظام، بالإضافة إلى وجود حياة نيابية، وإنْ كانت مشوّهة، لكنها كانت حياة سياسية ونيابية، يمكن البناء عليها وتصحيحها.
استفزّت هذه الحملة المتزايدة لتمجيد الملكية الناصريين، فزادت هذا العام حملاتُهم الهستيرية المعتادة لاتهام كل مَن ينتقد جمال عبد الناصر أو "23 يوليو" بأنه خائن وصهيوني وعميل للاستعمار وقوى الإمبريالية، وأن من ينتقد ناصر العظيم لا يعلم شيئا عن الفقر والطبقية والنفوذ الأجنبي الذي كان قبل ثورة 23 يوليو المجيدة التي قام بها ناصر، أو أن هؤلاء الأطفال الذين يهاجمون الزعيم المفدّى ما هم إلا مراهقون يرغبون في عودة مصر إلى عصور الملكية والإقطاع والعهد البائد.
كتب أستاذ مصري في العلوم السياسية مقالا، يتهم فيه كل من ينتقد تجربة عبد الناصر بأنه كارِه للشعب المصري، ومشارِك في مخطط إحباط الشعب، لأن عبد الناصر كان الزعيم الشعبي المحبوب، ومن لم يكن مشاركا في ذلك المخطط لكراهية الشعب فهو بالقطع إقطاعي جشع، أو إخواني متعصب، أو شيوعي متطرّف، أو ربما ليبرالي يختزل كل شيء في الديمقراطية.
زاد التراشق هذا العام عن باقي الأعوام، وهذا طبيعي، فثورة 25 يناير 2011 أسهمت في
 هدم أصنام وأمور عديدة كانت تعتبر من المحرّمات التي لا يجوز النقاش فيها، فمن الطبيعي أن تزداد الأجيال الجديدة جرأةً على عبد الناصر وعهده، وهو العهد الذي لقّنونا في مناهج التاريخ في المدارس أنه كان عهد الحرية والاستقلال عن الاستعمار وبناء الدولة الحديثة، وأن العالم كله تحالف ضده لإفشال تجربته، حتى لا يغزو العالم بعد توحيد العرب، فقد وجدت هذه الأجيال الكتب التي كانت محظورة على أجيال سابقة، وقرأت ما كان خفيّا في رواية أزمة مارس 1954 ، وما حدث من غدر مع الرئيس محمد نجيب، وأسباب حرب السويس وهل كان يمكن تجنبها، وما تسبب في هزيمة يونيو 1967 والدخول في حرب بدون سابق تجهيز، كما أن الأجيال الجديدة وجدت رواياتٍ أخرى غير الرواية الرسمية عن فترات العهد الملكي، فصحيح أنه كان هناك ظلم وطبقية وحياة سياسية فيها فسادٌ كثير، ولكن لم يكن الملك وحاشيته شياطين وجبارين بهذا الشكل الذي كان يصوّره الإعلام الناصري وقتها، وكذلك لم يكن الضباط الأحرار بتلك الصورة البطولية والملائكية التي صوّروها عن أنفسهم، حتى حرب أكتوبر 1973 المجيدة اكتشفنا أنها لم تكن انتصارا ساحقا كما صوّروه لنا، بل هناك تفاصيل كثيرة، وعلامات استفهام عديدة لم يتم الإجابة عنها.
وكانت الأجيال الجديدة قد سمعت وقرأت عن الحكم العسكري، أعرف أصدقاء كانوا يظنون أنه في تلك الروايات عن المعتقلات والتعذيب والأهوال في ذلك العهد بعض المبالغات، ولكن الكل الآن عاش كيف يكون الحكم العسكري، وشاهدنا جميعا كمّ الظلم والتعذيب والتنكيل، وكيف يكون التضليل الإعلامي، فبعد ثورة يناير وما فعله المجلس العسكري كان مثالا حيًّا عما حدث منذ أكثر من 60 عاما، من إدخالنا في مسار خاطئ يخدم فقط مصالح ضباط الجيش ونفوذهم، ثم استغلال "الإخوان المسلمين" ضد باقي القوى الثورية، ثم استغلال مخاوف التيار المدني والأقباط ضد "الإخوان"، ثم استغلال الجميع ضد الجميع من أجل حماية دولة العسكر، ولذلك ليس غريبا (من وجهة نظري) عودة التذكير بأن 23 يوليو 1952 كان انقلابا عسكريا، أدى إلى تغيير في نظام الحكم، فقد كان يطلق عليه وقتها انقلاب وحركة الضباط، إلى أن تم استحداث لفظ الحركة المباركة، ثم بعد ذلك سنوات أصبح يطلق على ما حدث في 23 يوليو ثورة.
وما حدث منذ 3 يوليو/ تموز 2013 في مصر نموذج حي لما كان قد حدث في 1954 وما بعدها، عندما تم الانقلاب على الرئيس محمد نجيب، واحتجازه بطريقة مهينة، ثم دفع الجماهير إلى الشوارع لتهتف ضد الديمقراطية، بعد شحنهم بخطاب تحريضي ضد أولئك الخونة الذين يطالبون بتطبيق الديمقراطية، ذلك الاختراع الغربي الذي يستخدمونه لهدم الدول، والذي لا يناسبنا، إنه الخطاب نفسه الذي نسمعه الآن ومنذ خمس سنوات من خطاب إعلامي يحتقر الديمقراطية وحقوق الإنسان، ويثير ذعر الجماهير منها، وهو ما نراه اليوم من ممارسات وانتهاكات وظلم، فالأجيال الجديدة تشاهد الآن كيف كانت فترة الخمسينيات والستينيات، وما حدث فيها من مذابح وسجن للآلاف وأحكام إعدام بالجملة.
من أسباب تزايد الهجوم على انقلاب 23 يوليو، وحالة اللعن التي يتلقاها عبد الناصر (على الرغم من إنجازاته وزعامته العربية) أنه الأب الروحي للمنظومة التي تحكم الآن، وهو مؤسس تلك الدولة شديدة البيروقراطية والمركزية الكريهة التي نعاني منها الآن. ولذلك فإن عبد الفتاح السيسي هو المقصود بكل ذلك النقد الحاد لعبد الناصر وتجربته، وهو النقد الذي قد يصل إلى
 حد السباب بشكل مبالغ فيه في أحيان كثيرة، فالسيسي امتداد لتجربة عبد الناصر بشكلٍ ما، تجربة احتفظت بالقمع والاستبداد والصوت الواحد والإعلام الموجّه والمركزية الشديدة والبيروقراطية وتحكُّم العسكر في جميع المجالات، وخلت من بعض الإنجازات المحسوبة لعهد عبد الناصر، مثل البُعد الاجتماعي والتمييز الإيجابي للطبقات البسيطة والعمال والفلاحين. وبما أن انتقاد السيسي وسياساته قد يكلف الشخص سنوات مديدة في سجونٍ لا تختلف كثيرا عن سجون عبد الناصر، فإن الانتقاد الذي قد يصل إلى حد التجريح في عبد الناصر (الجد الروحي لنظام السيسي) قد يكون أقل تكلفة، وإن كان سيستفز ويثير (أولتراس) عبد الناصر ويجعلهم يُحلّون دم من يتحدث بالسلب عن تجربته، ويتهمونه بالخيانة والعمالة للإمبريالية وقوى الاستعمار.
ويمكن كذلك تفسير الظاهرة المتزايدة للحنين للعهد الملكي الذي يصل أحيانا إلى درجة المبالغة والتضخيم، بأنه من أنواع الرد والمكايدة للناشرين الذين يضخّمون في تجربة عبد الناصر، ووضعه في درجة الآلهة، فيكون الرد بالاستفزاز على الاستفزاز، وبالمبالغة والتضخيم ردا على المبالغة والتضخيم، أو كأنه يقال مستحيلٌ أن يكون الملك أكثر سوءا من فترة عبد الناصر وسياسته التي جرّت الوبال والمصائب على مصر، ومستحيلٌ أن تكون حاشية الملك فاروق أكثر فسادا من حاشية عبد الناصر من الضباط الذين عاثوا في الأرض فسادا من دون حساب، يشبه ذلك كثيرا الحنين الذي يحدث أحيانا لعصر حسني مبارك مقارنة بعهد عبد الفتاح السيسي، وهذا أمر نسبي بالتأكيد، وليس معناه أن مبارك كان الرئيس الديمقراطي، أو أن دولته كانت دولة القانون والحكم الرشيد، لكن سجونه، على الرغم من سوئها، كانت كالجنة مقارنةً بسجون السيسي. ويمكن القول إن أسعار السلع والخدمات كانت مجانية، إذا ما قورنت بأسعار السلع والخدمات في عهد السيسي.
ولكن المؤكد والمؤسف أنه، وسط كل هذه المبالغات والتلاسن السنوي في ذلك الموسم، تضيع التحليلات والسرديات التي تتسم بالحياد والعقلانية حول تلك الحقبة المهمة في تاريخ مصر.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017