الحقائق "البديلة" تتجه غرباً

الحقائق "البديلة" تتجه غرباً

28 اغسطس 2018
+ الخط -
الحقيقة ليست الحقيقة. قالها رودي جولياني محامي الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في سجال تلفزيوني. قبلها دافع ترامب عما يراه وقائع، من دون أن تمت بالضرورة للواقع بصلة. سجّل مرصد صحيفة واشنطن بوست للتحقّق من المعلومات 4229 ادعاء خاطئا أو مضللا، قدّمه ترامب، بما معدله حوالي 7,6 ادّعاءات في اليوم. قبل ذلك، دافعت إحدى مساعدات ترامب عن ادّعاء كاذب صدر عنه، بالقول إن ثمّة "حقائق بديلة" للحقائق المتوافق عليها، مثل عدد حضور حفل ترسيم الرئيس المنتخب بعدما ادّعى ترامب أن العدد فاق حضور حفل ترسيم سلفه باراك أوباما.
سبق زعماء العالم العربي هؤلاء بالتسويق للحقائق "البديلة"، من دون أن يسبّب ذلك أي سجال حول معنى الحقيقة بين الزعيم وإعلامه التطبيلي. الأكثر تفوقا بين هؤلاء في علم الخيال الحديث هو عبد الفتاح السيسي. بدا الجنرال مقتنعا تماما، وهو يحفّز الشعب على الصبر على تردّي الأوضاع الاقتصادية في إحدى المناسبات الرسمية، ضاربا مثال ثلاجته التي بقيت فارغة إلا من الماء سنوات، وهو وعائلته صابرون على الجوع بصمت. هزّ الحضور الرسمي برأسه، متأثرا من أهمية هذه الظاهرة البيولوجية الفريدة، ودلالاتها الوطنية. قبلها أطلق السيسي على نفسه لقب فيلسوف الفلاسفة، وكشف لصحافي من شبكة مريديه أنه شاهد حلما، هو بمثابة الرؤيا، يرٍى فيه نفسه جالسا إلى جانب الرئيس الراحل أنور السادات، في إيحاء لخلافة الأخير في حكم البلاد. الصحافي "الملتزم" لم ينشر المقطع من المقابلة، فلم نعرف عنه إلا عبر عملية تسريب. كرّم السيسي الضابط "طبيب الكفتة" الذي ادّعى اختراع علاج للإيدز، في ما تحول إلى طرفة تناولتها الصحافة العالمية، وبات رسميا جهاز المؤسسة العسكرية لمكافحة المرض، على الرغم من معارضة شديدة من نقابة الأطباء. لا يزال الجهاز الأعجوبة في انتظار فصل جديد في رواية الحقائق "البديلة".
الحقيقة ليست الحقيقة أمر ليس جديدا في العالم العربي، حيث النسبية تمارس بمعناها الواسع، و"الحقائق" تقاس على مقاس الزعماء والمجموعات والطوائف، حتى في تأطير الانتهاكات الفظيعة ضد حقوق الإنسان. إثر مجزرة الغوطة التي راح ضحيتها 1400 شخص في أغسطس/ آب 2013، تفتق خيال المستشارة السورية، بثينة شعبان، عن رواية فريدة في
إبداعها، إذ ادّعت دفاعا عن نظام الأسد أن المعارضة خطفت رجالا وأطفالا من قرى اللاذقية، وقادتهم ليلا إلى الغوطة، حيث أبادتهم بالسلاح الكيميائي. علم الخيال أمر عادي في عالمنا، ولكن أن يتعولم ليصبح ظاهرة غربيةً تستخدم في الترويج والدعاية السياسية والقتل المعنوي للآخر، بعد إقصائه، فتلك مسألة أخرى، باتت تساوي الغرب بالعالم الثالث، وتطرح التساؤل بشأن تفوق الأول وتخلف الثاني.
أبرز فصول الظاهرة فضيحة التلاعب بالمعلومات الخاصة للمشتركين في "فيسبوك" على يد شركة المعلومات "كامبريدج أناليتيكا" لأغراض انتخابية. اتهمت الشركة باستخدام المعلومات الشخصية لأكثر من خمسين مليون مشترك فيسبوكي، في بناء منظومة معلوماتية، تستهدف الناخبين عبر رسائل انتخابية خاصة، تستخدم نقاط الضعف في البروفايل السيكولوجي لكل ناخب، لدفعه إلى الاقتراع في وجهة ما في الانتخابات الأميركية في العام 2016. وفتحت المعلومات التي كشفها باني المنظومة المعلوماتية الذي سرّب القضية للصحافة الباب أمام أسئلةٍ بشأن دور محتمل للشركة في التأثير على نتائج التصويت على الانسحاب من الاتحاد الأوروبي في بريطانيا، حيث جاء فوز الفريق الداعي إلى الانسحاب من الاتحاد مفاجئا، وبفارق ضئيل جدا مع الفريق المنافس. ليس التحايل والتلاعب بنيات الانتخاب أمرا جديدا، إنما الجديد والمخيف هو قدرة الشركة على سرقة المعلومات الخاصة لمستخدمي "فيسبوك" للتلاعب النفسي، عبر إثارة الغرائز البسيطة للناخبين، مثل الخوف والغضب وكره الآخر. كشفت تسريبات فيديوهات مسجلة لمدراء في الشركة عمليات تلاعب بالرأي العام في دول العالم الثالث، باستخدام طرق تقليدية، مثل الفضائح الجنسية، والتشويش عبر نشر الأخبار الكاذبة لحساب أجندات سياسية وكبار المتمولين في حملات انتخابية. الجديد أن شفافية العملية الانتخابية وعقلانيتها باتتا أمرين مشكوكا بهما في الغرب.
شهدت الانتخابات الرئاسية الأميركية تشويشا معلوماتيا هائلا، تعاضدت عليه وسائل الإعلام التقليدية ووسائط التواصل الاجتماعي، مثل اتهام هيلاري كلينتون بإدارة شبكة دعارة، أو دعم حركة طالبان وإقامة حكم الشريعة في بلادها. بات الانقسام الحادّ في المجتمع البريطاني مناسبةً لإلغاء الآخر، عبر استخدام لغة التخوين الرائجة في خطابنا السياسي والإعلامي. لم تتوان يومية ديلي ميل، اليمينية الشعبوية، عن وصف قضاة المحكمة العليا بأنهم "أعداء الشعب"، لقيامهم بمهامهم في تأكيد سيادة البرلمان في أي قرار يتّخذ في شأن عملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي. استخدمت الصحافة الشعبوية تعبير "الخونة"، في وصف النواب المحافظين المتمرّدين على خطة رئيسة الوزراء في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي. وبلغ الأمر ببعض السياسيين تشبيه هؤلاء بالمتعاملين مع النازية. تطلق الصحافة اليمينية توصيف "مشروع الخوف" على فريق المحذّرين من انسحاب فوضوي من الاتحاد الأوروبي سيكون له تأثير مدمر على الاقتصاد ومستقبل البلاد، في عملية قتل معنوي لهؤلاء المعترضين. لا يريد أن يسمع مؤيدو القطيعة التامة مع الاتحاد أي كلامٍ عن معلومات أو دراسات أو خبراء. هم في يقينٍ لا يحتاج إلى معلومة أن حلم التناغم الاجتماعي والعودة إلى "صفاء" إثني أبيض اللون في البلاد مغامرة تستحق الخوض، ولو كان الثمن الفقر وانسداد الأفق.
في أحد فنادق مدينة بوسطن الأميركية، قال لي نادل، في شرح تأييده ترامب، إن الكوارث الطبيعية باتت أسوأ في البلاد بسبب المهاجرين. وما العلاقة بين المهاجرين والكوارث؟ سألته فأجاب: قديما كان الإعصار يضرب منطقة ما من دون أن يسبّب عددا كبيرا من الضحايا، بسبب قلة عدد السكان، أما الآن فبات عدد الضحايا، وكلفة عمليات الإنقاذ، أكبر بكثير، بسبب إقبال المهاجرين على هذه المناطق. هل يحتاج محدّثي، وأمثاله كثر، إلى معلومات، أو إلى مزيد من الإيمان أنه على حق، ولو أثبتت كل نظريات العلم خلاف ذلك؟ باتت المعلومات مناسبة للتشويش. هل المعلومة معلومة؟ ماذا نصدّق؟
A6CF6800-10AF-438C-B5B5-D519819C2804
فاطمة العيساوي

أستاذة لبنانية في جامعة إيسيكس البريطانية. ترأست بحثا في تأثير عملية الانتقال السياسي على الإعلام المحلي في دول الثورات العربية. صحافية مستقلة ومدربة وخبيرة في التشريعات الاعلامية في العالم العربي.