من معيقات الإبداع

من معيقات الإبداع

24 اغسطس 2018
+ الخط -
أقمت معرضا للوحات تشكيلية في مدرسة ابتدائية جنوب المغرب. استرعى انتباهي، وأنا أشرح للناس مضمون لوحاتي، تلميذا صغيرا، كان يتبعني في ذهابي وإيابي في القاعة الفسيحة. وبعد أن انصرف الجميع، استفهمته عما جعله لا يفارقني، فقال: "إني أحب الرسم حبا كبيرا"، قلت له: "جميل وفقك الله"، لكنه أردف: "مشكلتي أن أبي لا يتركني أرسم، إنه يمزّق رسومي، ويلومني لوْما ينتهي بالضرب أحيانا". استبد بي القلق بشأنه، وقلت له: "هل بإمكاني أن أقابل أباك؟" قال إنه هناك جالس في خيمة الحفل. ذهبت إلى أبيه وقابلته. وبعد أن شرحت له أهمية الرسم والإبداع للأطفال، اقتنع بترك ابنه يواصل رسوماته.
الإبداع، باعتباره أمرا له حساسياته وله ظروفه الراعية لنموه وتطوره، يحتاج وسائل وشروطا خاصة، قصد البلوغ به مرتبة الإمتاع والإفادة التي تعطيه المنزلة الكاسبة للتقدير لشأنه. وفي كل مجتمع، هناك مبدعون كبار، وآخرون في طور التكوين والنمو والتدرب، وآخرون مهمشّون لا مكانة لهم في وسائل الإعلام.
وإذا كان الصغر مناط التكوين والانطلاق السليم في كل مجالات الحياة، فإن الأطفال، منهم المبدع المحظوظ الذي يلقى الرعاية الكافية من والديه أو معلميه مع تشجيع المحيط الذي ينشأ في أحضانه. وكثيرا ما يواجه المبدع في المجتمعات النامية عوائق تجعله يفقد ميله نحو الإبداع، على الرغم من توفره على مؤهلات وموهبة قادرة على جعله يساهم في إثراء الفكر والثقافة والفن والاختراع، فالإبداع لا يقتصر على الأدب والتشكيل، وما يشبههما، بل يتجاوز ذلك إلى الاكتشاف والاختراع وكل ما يتطلع إلى ما يطور الفكر ويجدّد النظرة إلى الأشياء، قصد الإتيان بالجديد.
ولا يكفي أن تكون موهوبا لتصير مبدعا له وزن وقيمة، فعقبات الطريق إلى النضج الإبداعي كثيرة ومتشابكة، ومنها ما يتعلق بالنفس والمجتمع والأسرة والمدرسة. ومن عوائق الإبداع:
أولا، عدم إدراك الآباء أهمية الإبداع، بمختلف أنواعه، وكثير منهم يعتقد اعتقادا جازما أن الإبداع، في معظمه، مضيعة للوقت ومدعاة للانحراف، متناسين أن العكس هو الصحيح. فمن خلال الإبداع نتعلم كثيرون من المهارات، كمهارة التفكير والبحث عن الحلول وعن الجديد المبتكر. وبذلك يقتلون مواهب وقدرات كثيرة ثمينة لعدم إدراكهم أهمية الإبداع في أبعاده الشاملة.
الإقبال على الشيء تساعد عليه المعرفة به وبأبعاده المختلفة، ولأن الأطفال يتميّزون بتوفرهم على طاقة زائدة، فإن أفضل ما تصرف فيه هذه الطاقة هو الإبداع، حيث اكتساب مهارات كثيرة تصقل الشخصية.
ثانيا: لا زالت البرامج المدرسية في جلّ البلدان العربية لا تعطي الإبداع الأهمية التي يستحقها، بل إن مدرسين كثيرين يناصرون آراء الآباء المشار إليهم أعلاه، في أن الإبداع لا يجدي نفعا للمتعلمين، ولا أثر رابحا له.
ثالثا: هناك أمور كثيرة متعلقة بالمبدع المبتدئ نفسه، مثل عدم معرفته هدفه من الفن، وعدم ثقته بنفسه، ومرافقته من يعمل على صرفه عنه، وعدم تشجيع من حوله في المنزل والمدرسة على الاستمرار فيه.
رابعا: تحمل أفكار كثيرة سائدة في المجتمع إيحاءات سلبية مثبطة إزاء تعلم الإبداع وممارسته. ومن المفارقات العجيبة أنّ بعض الآباء يعاتبون مدرسي المسرح، لكونه يساعد على الانحراف، بينما نجد أبناءهم البعيدين عن المسرح وغيره من الفنون يدخنون ويلعبون القمار.
خامسا: الانتقاد اللاذع للإبداع والمبدعين يدفع الميالين إلى الإبداع، فيبتعدون عنه، خوفا من السخرية وسخط الأسرة والمجتمع.
على وسائل الإعلام المختلفة، وعلى المدارس الخصوصية والعمومية، أن تولي الاهتمام الكافي للإبداع، بحكم كونه الأساس الذي تبنى عليه معارف أساسية كثيرة، علاوة على أن الإبداع أساس كل هذا التقدم الذي نراه اليوم في المجال التقني والترفيهي والتعليمي. كما ينبغي للمؤسسات الثقافية تشجيع المواهب، وتحفيزها بجوائز مادية ومعنوية، فخلود الأوطان يتم في إبداعات أهلها.
لحسن ملواني
لحسن ملواني
لحسن ملواني
كاتب مغربي. يعبّر عن نفسه بالقول "الإبداع حياة".
لحسن ملواني