النفط واجهة للصراع حول الدولة في ليبيا

النفط واجهة للصراع حول الدولة في ليبيا

24 اغسطس 2018

مشهد عام لمنشآت تكرير النفط في برقة (12/1/2017/فرانس برس)

+ الخط -
على الرغم من الجدل المصاحب لاندلاع المعارك حول الهلال النفطي في ليبيا، في 20 يونيو/ حزيران 2018، تكشف التفاعلات  الداخلية، اللاحقة، عن دور التناقضات الهيكلية في تشكّل الجذر الأساسي لاستمرار الأزمة السياسية، بحيث صارت مرتبطةً بالبنية الأساسية للدولة، وخصوصاً في قطاعات الأمن والاقتصاد والسياسة النقدية، ما يثير التساؤل بشأن فرص استعادة المسار السياسي، في ظل تقاسم الدولة ومواردها وانحسار الزخم حول الانتخابات.

سياقات السلطة في شرق ليببا
خلال شهري يونيو/ حزيران ـ ويوليو/ تموز 2018، حاولت القيادة العامة تقديم شروحاتٍ لسياستها تجاه إدارة الثروة النفطية، وبالإضافة إلى تصريحات إعلامية عديدة، تضمّن بيان الجيش الليبي (4 يوليو/ تموز 2018) ملامح رؤيتها تجاه قطاع النفط، حيث أشارت إلى تحقيق ثلاثة أهداف؛ وقف إهدار المال العام، وقف تمويل الجماعات الإرهابية، وتحقيق العدالة في توزيع عائدات النفط، لكنها أضافت، أيضاً، ضمان النفقات الضرورية للجيش والعمليات العسكرية. وعلى الرغم من ارتباط الأهداف الأولى باتجاهات الإصلاح العامة في الدولة، والتي تتقاطع مع تطلّع أطرافٍ أخرى، فإن ما يتعلق بضمان مخصّصات الجيش يكشف عن الطابع الفئوي في النظر للمالية العامة للدولة. وعلى الرغم من أنه يتّسق مع المشروع السياسي والعسكري لخليفة حفتر، إلا أنه لا يراعي تباين التطلعات بين الكيانات الليبية المختلفة، كما يضيف أبعاداً أخرى إلى الصراع حول الموارد العامة.
وقد حاول بيان القيادة العامة تفسير العملية العسكرية، بالإشارة إلى تضاؤل النتائج المترتّبة على وضعها تحت تصرّف المؤسسة الوطنية للنفط التابعة لمجلس النواب منذ 2016، عندما أشار 
إلى نقص التمويل اللازم لتطوير الجيش، وبناء المؤسسة العسكرية، كما لم تسهم عوائد النفط في تحسين الاقتصاد أو مستوى المعيشة. ولتوسيع إطار العملية العسكرية، وضعها ضمن سياق سياسي يقوم على احترام قرارات مجلس النواب، وخصوصاً ما يتعلق بتعيين رئيس جديد للمصرف المركزي، والمطالبة بالإفصاح عن مصادر تمويل الجماعات الإرهابية والجماعات المسلحة، وقد لوحظ أن البيان ربط تحقيق هذه الأهداف بنقل مهمة الدفاع عن المنشآت النفطية للقوات المسلحة، والالتزام بمقرّرات مبادرة باريس، على الرغم من عدم التوقيع عليها. وعلى أي حال، يبدو واضحاً أن مسألة تمويل الجيش شغلت جانباً مهماً من أهداف السيطرة على الموانئ النفطية.
ومع انتشار قواته في الهلال النفطي، تبلورت ملامح تحالف بين خليفة حفتر ونواب برقة، بشأن سيطرة الجيش على الموانئ النفطية. وشهد المجلس الرئاسي انسحاب عضويه عن المنطقة الشرقية، فلدى النظر لبيانات نواب برقة (يوليو/ تموز 2018)، وعضوي المجلس الرئاسي المنسحبين منه، فتحي المجبري وعلي القطراني، يمكن ملاحظة تطابق موقفهما مع تحرّكات الجيش في منطقة الهلال النفطي، وقد ذهب التضامن بينهما إلى مدى أبعد لدى بدء الترتيبات لعقد اجتماع لنواب برقة في مجلس النواب، لكنه قبل الانعقاد بيومين، أعلن القطراني إلغاءه (24 يوليو/ تموز 2018)، وقال إن سبب الإلغاء يرجع إلى محاولة بعض الأطراف استغلاله لتحقيق مكاسب ومنافع شخصية، بعيدة عن حقوق برقة، وظهور مرام لا تتناسب ومصالح الوطن، وكان مفترضا أن يكون اجتماع النواب المظلّة السياسية للترتيبات اللاحقة لسيطرة الجيش على الموانئ النفطية، غير أن الضغوط الدولية وانسحابه دفع باتجاه تراجع عضوي المجلس الرئاسي عن المضي في مسارهما السياسي.
وتعد الخطوات المصاحبة لإحداث الموانئ النفطية الأكثر دلالةً على تنافر الرؤى والمصالح السياسية، فبينما كان خطاب حفتر يميل إلى السيطرة على النفط، لاقتطاع مخصصات "الجيش الليبي" في ظل الدولة الموحّدة، برزت التطلعات الانفصالية في خطاب عضوي المجلس الرئاسي، علي القطراني وفتحي المجبري، حيث دعيا إلى انسحاب وزراء المنطقة الشرقية من حكومة الوفاق، وعقد مؤتمر لنواب برقة لبحث مستقبل الإقليم.
لم يقتصر موقف الرجلين على الانسحاب من المجلس الرئاسي، فقد اتخذا خطواتٍ لبلورة إطار سياسي للمنطقة الشرقية، حيث وجّها دعوة إلى أعضاء مجلس النواب عن المنطقة الشرقية ومشايخ القبائل، لعقد اجتماع في بنغازي، لمناقشة تطورات المشهد السياسي، وانسحاب برقة من المجلس الرئاسي، وبحيث يتناول الاجتماع ترتيبات ما بعد الانسحاب، وتحديد مصير الاتفاق السياسي، وحقوق إقليم برقة.

سياقات السلطة في غرب ليبيا
وعلى الوجه الآخر، اعتبرت غالبية أعضاء المجلس الرئاسي (26 يونيو/ حزيران 2015)، أن تسليم الموانئ النفطية للحكومة المؤقتة صدر عن جهةٍ لا تملك صلاحية التصرّف بشأن إدارة النفط، كما أنها نقلته إلى جهةٍ غير معترف بها، وقد ذهب البيان الذي أصدروه إلى أن هذه الإجراءات تحول دون الإصلاح السياسي، وتعقد مسار التسوية وترسّخ الانقسام. وهنا انصب خطاب المجلس على تأكيد أن المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس هي الجهة الشرعية المسؤولة عن إدارة النفط. ولذلك، وجه خطابه إلى مطالبة مجلس الأمن، ولجنة العقوبات، بمنع التجارة غير الشرعية، وفقا لقرار مجلس الأمن 2362، والذي يمنع الجهات الموازية لحكومة الوفاق من التصرّف في الموارد الليبية. وبهذا المعنى، يمكن القول إن استمرار صيغة المجلس الرئاسي، بشكلها الحالي، شكّل مصدراً للانقسام وعدم الاستقرار.
وفي هذا السياق، يشكل بيان نواب مصراتة (5 يوليو/ تموز 2018)، واحداً من أهم 
مؤشرات الموقف السياسي في غرب ليبيا، حيث يتضح أنهم وقفوا على مسافةٍ متساويةٍ من تداعيات الصراع العسكري حول النفط، فمن جهةٍ انتقد تدخل آمر حرس المنشآت النفطية السابق، إبراهيم الجضران، ووصفه بالاعتداء على المنشآت النفطية، ومن جهة أخرى، رأى أن تدخل الجيش لم يكن مناسباً، حيث أثار الصراع مرة أخرى بين مؤسسات الدولة، ليس فقط باندلاع المعارك وتهديد الثروة، ولكن ايضاً بإعلانه عن تسليم الموانئ لجهة نفطية موازية.
وقد انشغل البيان بمسألةٍ أخرى، تتعلق بانهيار سلطة الدولة، في الشرق والغرب، لصالح المليشيات المسلحة، وارتهان القرار السياسي لها، وكانت الإشارة واضحةً إلى تصاعد سيطرة المسلحين على قرار حكومة الوفاق، وعدم شفافية بيانات مصرف ليبيا إزاء تدهور الوضع الاقتصادي، وانكشافه أمام المسلحين. وتكمن دلالة هذه الملاحظة في تراجع الميزة النسبية للدور السياسي للمدينة، وأنها صارت بعيدة عن التأثير في العاصمتين: طرابلس وبنغازي، ولذلك، تبدو لغة البيان أكثر ميلاً إلى البحث عن حل سياسي، ودعوة البرلمان إلى الاجتماع في بنغازي، لأجل الخروج من الاختناقات السياسية.
وفي سياق تصدّي بيان نواب مصراتة لهذه المشكلات، كانت ميوله واضحةً نحو تأكيد سلطة المؤسسات، المعترف بها دولياً، وهي التابعة لحكومة الوفاق. ولذلك، كانت تصوّراته في تسليم سلطة إدارة النفط للمؤسسة في طرابلس، وإعادة تشكيل مجلس إدارة المصرف الليبي، وكانت النقطة الأكثر أهمية متمثلةً في المطالبة بمراجعة السياسات الأمنية في العاصمة، وأوضاع المكونات المسلحة في المدينة.
يمكن تفسير الموقف السياسي لنواب مصراتة في سياق أنماط السيطرة على العاصمة، حيث وفقاً لتقرير اقتصاد المجموعات المسلحة بطرابلس الكبرى والصادر عن المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في سويسرا (2018)، استطاعت المجموعات المسلحة التغلغل في مستويات الإدارة والقطاع المصرفي، وأصبحت منخرطةً بشكل أعمق في شبكات الأعمال والسياسة، حتى صارت تقوم بدور أجهزة المخابرات والقوات الأمنية التابعة للدولة، وشركات الأمن الخاصة، كما تنامى نفوذها مع دخول المجلس الرئاسي طرابلس، حيث شكلت الحماية الأساسية لحكومة الوفاق، فيما غابت الترتيبات الأمنية النظامية.

معضلة الأصول المالية والسياسة النقدية
تكمن أهمية أبعاد الأزمة النقدية في أنها تعكس الوجه الآخر لتفكّك سلطة الدولة، وانقسام مؤسساتها، وهذا ما يتضح في غياب سياسةٍ للتعامل مع الأصول الليبية المجمدة، وعدم وضوح خريطة طريق لحل النزاع بشأن مصرف ليبيا المركزي، فقد ظهرت المشكلات المتعلقة بالأصول الليبية المجمّدة بصورة مقلقة، بمحاولات البرلمان البريطاني الاستحواذ على الأموال الليبية المجمّدة لدى بريطانيا، والبالغة 19.2 مليار دولار، وذلك بالاستناد لقرار مجلس الأمن 1973، لتعويض ضحايا هجمات الجيش الإيرلندي في ثمانينيات القرن الماضي. وفي هذا السياق، يتضافر موقف الأحزاب السياسية (13 يونيو/ حزيران 2018): تحالف القوى الوطنية، والعدالة والبناء، والجبهة الوطنية، والوطن، وتيار شباب الوسط، والتغيير، والتكتل الوطني الديمقراطي، مع موقف المجلس الرئاسي التابع لحكومة الوفاق الوطني، والمجلس الأعلى للدولة، وهو ما يشكّل أرضيةً للتوافق على جانب من القضايا الوطنية والمتعلقة بالموارد والأصول السيادية.
كما شكل النزاع حول منصب محافظ المصرف المركزي إحدى المعضلات في السياسة الليبية، فمن جهة، مر بتجربة انقسام المؤسسات السياسية، لم تتوقف فقط عند تعيين محمد الشكري
 رئيساً لفرع "البيضاء"، لكنها تفاقمت خلال السنوات اللاحقة، وخصوصاً بعد معارك الهلال النفطي أخيرا، حيث تفاقمت تطلعات فريق الكرامة في الاستحواذ على عوائد النفط، وتسليمها للمصرف في المنطقة الشرقية. ومن جهة أخرى، لقي المصرف انتقاداتٍ دارت حول دعمه المليشيات المسلحة، وضعف القدرة على ضبط السوق النقدي، وتوفير السيولة.
وبغض النظر عن الجدل بشأن أداء السياسة النقدية والمالية، وما أثاره تقرير ديوان المحاسبة، ظل المصرف غير بعيدٍ عن الأزمة السياسية منذ منتصف 2014، وارتبط بمشكلات نقص السيولة وتراجع الأداء الاقتصادي، وهي نتائج لا تتحمّلها إدارة المصرف المركزي، فهي تراكمت نتيجة تداعياتٍ سياسيةٍ وأمنيةٍ لم توفر له الحماية والاستقلال. وتفاقم هذا النزاع مع نهاية 2017، عندما أقدم مجلس النواب على تعيين محمد الشكري محافظاً جديداً ونقل المقر الرئيس للمصرف إلى مدينة البيضاء، ما يعكس انفراط القرار السياسي بين الصراعات الداخلية والتنافس الدولي.

سلاسة الدخول الأجنبي
وعلى الرغم من انتشار توقعات بأن قرارات حفتر تسليم الموانئ النفطية للحكومة المؤقتة سوف تكون ذات آثار بعيدة المدى، فقد انتهت هذه الأزمة سريعاً (11 يوليو/ تموز 2018)، وكشفت عن ضعف فريق الكرامة، وانسحابه خارج هذه المنطقة، وفتح الطريق أمام تغيير الوضع السياسي في شرق ليبيا. وفي هذا السياق، يمكن القول إن اتساع التغطية الإعلامية لدخول "الجيش الليبي"، وتصويره مقدمة لتحول استراتيجي في السياسة الليبية، لازمه تجنب النظر إلى تأثير عوامل أخرى، كان أهمها متمثلاً في تعدّد أنماط صراعات السيطرة على جهاز الدولة، واقتسامه بين مكونات مسلحة، تبسط سلطتها على قطاعات محلية في الأمن والاقتصاد، وهذا ما يفسّر الاستجابة السريعة للمطالب الأميركية، وإلى حد ما الأوروبية، بإخراج قطاع النفط من الصراع السياسي.
لعل الملمح العام أن اندلاع المعارك حول الموانئ النفطية يعد بمثابة إنهاء للمبادرة الفرنسية (مايو/ أيار 2018)، فبينما كانت تهدف إلى تطوير الحوار السياسي، ومعالجة انقسام المؤسسات، عمل نشوب الحرب على إثارة النزاع مرة أخرى حول توحيد المؤسسات، وتحفيز التنافس الدولي.
وعلى الرغم من وضوح هيمنة العامل الدولي، تبدو إحاطة الممثل الخاص للأمم المتحدة، غسان سلامة، متأثرة بتعيين نائبته الأميركية ستيفاني وليامز، حيث ركز تقريره لمجلس الأمن في 16 يوليو/ تموز 2018، على موضوعاتٍ لا تتقاطع مباشرة مع الأزمات المحلية، كما لم تتضمن الإشارة إلى قضايا جوهرية بشأن دور الأمم المتحدة في ليبيا، حيث كشف عن نجاح البعثة في التوصل إلى تهدئةٍ في الصراع المسلح، وقطع شوط كبير في ملتقى الحوار الوطني، وبشكل ساعد على إيجاد بيئةٍ إيجابيةٍ، ساهمت في عقد عدة مصالحات. وفي هذا السياق، يبدو واضحاً أن تقرير البعثة الدولية لم يتطرّق إلى الوضع الأمني في طرابلس، أو العمليات العسكرية في درنة، على الرغم من تأثيرها الكبير على تقدم سياسة الأمم المتحدة، وعدم قدرة البعثة، بتشكيلها الحالي، على مسايرة الأحداث، وهو ما يمكن تفسيره في تنافس الدول الرئيسية على توسيع نفوذها في الشؤون الليبية، أو انتظار حدوث تغيرات واسعة في البعثة الدولية.
يمكن القول إن وقوع ليبيا في حزمةٍ متضافرةٍ من الأزمات السياسية يساعد على تراجع فرص التقدم باتجاه الحل السياسي، وهو ما يرجع إلى عاملين؛ الأول، غياب المؤسسات المركزية ووقوع سلطات الدولة تحت هيمنة المجموعات المسلحة وشغلها الوظائف الرسمية. والثاني، يكشف ظهور الميول الانفصالية مترافقاً مع احتدام الأزمات عن البدائل المحتملة لوحدة الدولة. وعلى الرغم من توفر نزاعاتها الداخلية، فإنها ما زالت تلقى معارضة دولية. وفي هذا السياق، قد تساهم دعوة بعض الكيانات السياسية إلى حراك جماهيري في الضغط باتجاه تقليل الفوضى حول المؤسسات، لكن نجاحها يتوقف على التضامن الاجتماعي.
5DF040BC-1DB4-4A19-BAE0-BB5A6E4C1C83
خيري عمر

استاذ العلوم السياسية في جامعة صقريا، حصل على الدكتوراة والماجستير في العلوم السياسية من جامعة القاهرة، وعمل باحثاً في عدة مراكز بحثية. ونشر مقالات وبحوثاً عديدة عن السياسية في أفريقيا ومصر والشرق الأوسط .