حرب السياسات التجارية والاقتصادية

حرب السياسات التجارية والاقتصادية

23 اغسطس 2018
+ الخط -
مع تقدّم قدرة مجموعة البلدان البازغة علميًا وتكنولوجياً واقتصادياً، مثل الصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل والمكسيك وجنوب أفريقيا وغيرها، تصبح منتجاتها السلعية والخدمية أكثر قدرة على منافسة منتجات مجموعة الدول المتقدمة في أوروبا الغربية والولايات المتحدة واليابان وكندا، متسببة بضغوط كبيرة على أسواق المنتجات السلعية والخدمية للدول المتقدّمة، مستفيدة من الفروق الكبيرة في التكاليف المنخفضة لمنتجاتها، وبالتالي أسعارها، فمنتجات الدول المتقدّمة تتحمل أعباء أجور ترتفع بعدة مرات عن مثيلاتها في الدول البازغة، واقتطاعات ضريبية واجتماعية أعلى. وتتمتع طبقة المشتغلين فيها، مقارنة بالدول البازغة، بحقوق وقدرة أعلى على المطالبة بتحسين شروط عملها بأجورها ومزاياها الاجتماعية، وتنظيماتها العمالية القوية ومستويات حقوق الإنسان ومكافحة الفساد وحماية البيئة المرتفعة. وتنعكس هذه كلها ارتفاعاً في تكاليف منتجاتها،
مثلاً يعد موبايل سامسونغ الكوري الجنوبي منافسا قويا لآبل الأميركي، وتبرز اليوم شركة هواوي الصينية، وقد أصبحت أكبر شركات الموبايل في العالم، وهي تجمع بين التصنيع وتقديم الخدمات، وبدأ موبايل هواوي بمنافسة قوية لآيفون وسامسونغ، وهي تسعى إلى الاستحواذ على شركات الموبايل الغربية، ونرى كومبيوترات لينوفو تصبح الأكثر مبيعًا. ونرى شركة سيارات جيلي الصينية تشتري أسهما في شركات السيارات الألمانية، وتتحول إلى أكبر مصنّعي السيارات في العالم، وأصبحت الصين هي منتج الصلب الأول في العالم، بفارق خمسة أضعاف عن الولايات المتحدة، كما نرى شركات العالم الكبرى تؤدي خدماتها الكثيرة، مثل خدمات البرمجة وصيانة الشبكات ومكاتب التصاميم الهندسية وخدمات المكاتب المالية والمحاسبية وغيرها، تؤديها مكاتب لها في الهند، وأصبحت شركة تاتا الهندية اليوم تملك مصانع صلب في قلب بريطانيا التي استعمرتها قرونا.
أدى هذا الوضع إلى نزوح الشركات الكبرى، بمصانعها ومراكز خدماتها واستثماراتها وفرص 
عملها، من مجموعة الدول المتقدمة إلى الدول البازغة، وخصوصا الصين والهند، وقد حرم هذا خزائن حكومات الدول المتقدّمة من مبالغ هائلة من إيرادات الضرائب، ومن مدفوعات التقاعد وقلص أسواقها الداخلية، والأهم أنه رحل بفرصِ العمل نحو مجموعة الدول البازغة، ما أدّى إلى ارتفاع معدلات البطالة في الدول المتقدمة.
أحدث هذا التنافس على الأسواق، وما زال، حمّى تنافس بين شركات العالم واقتصادياته على تقليص التكاليف عبر تقليص حقوق المشتغلين، سواء الأجور أو مجمل شروط العمل، وعلى تخفيض الضرائب على الأرباح، ما يقلص إيرادات الخزينة العامة، ويحدّ من قدرتها على الإنفاق على شبكة الضمان الاجتماعي، وحماية البيئة، وحماية الثقافات، ودعم الفئات الضعيفة، وعلى تقييد حقوق العمل في الإضراب، والمطالبة بتحسين أجورهم وشروط عملهم، وكل هذا تحت تهديد خسارة الأسواق وخسارة الاستثمارات وزيادة البطالة. وقد شاهدنا مجموعة الدول المتقدمة منذ ثمانينيات القرن الماضي تنحو هذا المنحى، وقد سحبت كثيرا من مكاسب سوق العمل التي تحققت، خصوصا خلال العقود الثلاثة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وما زالت الضغوط مستمرة.
ضمن الصراعات التي تشهدها مجموعة البلدان المتقدّمة، وتهديدات التحول في موازين القوى الاقتصادية العالمية والانزياحات في مراكزها، تبرز توجهاتٌ تطاول تغييرًا في صلب سياسة تحرير أسواق السلع والخدمات ورؤوس الأموال، وتدعو إلى عكس سياسات العولمة، فالأسواق العالمية المفتوحة تعني أن سوقا عالمية واحدة تتوفر فيها منتجاتٌ متماثلة، أو متقاربة، معروضة بشروط متباينة كثيرًا، ستعني خسارتهم، والحل أمامهم هو عكس اتجاه العولمة، وإعادة بناء الجدران الجمركية والحمائية. ونحن نرى اليوم الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، يتجه إلى تغيير توجه السياسة الاقتصادية الأميركية نحو الحمائية، على الرغم من أن أميركا كانت دومًا عدوة الحمائية، وتدعو إلى حرية التجارة والاستثمارات، والطريف أن الصين التي كانت رمز الحمائية والانغلاق في العالم أصبحت اليوم مدافعًا شرسًا عن حرية التجارة وحرية الاستثمار، على الرغم من أنها ما زالت تقيد الاستثمار في بلادها، وتقيد الحريات العامة، وتقدم حقوقًا أقل بكثير للمشتغلين.
قد يقول قائل بتشفٍ: ليكن ذلك، فهو انتقام دول العالم الثالث من الدول المتقدمة التي استعمرتها من قبل، وتستغلها اليوم، لكن المشكلة في هذا القول أنه بينما كانت البشرية تطمح إلى عدالة أعلى من التي وصلت إليها الدول المتقدمة، نرى الأخيرة تتراجع تدريجيًا عن تلك السياسات التي حققت قدرًا جيدًا من العدالة المجتمعية والإنسانية، وتستمر في تراجعها عما تبقّى منها، لكي تستطيع المنافسة. وإذا استمر هذا التوجه، فإنه يعني أن على البشرية أن تخوض ثانيةً الصراع نفسه الذي خاضته شعوب أوروبا، لكي تعود إلى تحقيق المكاسب نفسها للمشتغلين، وحقوق الإنسان نفسها، وحقوق المواطنة المتساوية التي تسود أوروبا اليوم، خصوصا وأن الصين، وهي المرشح لقيادة العالم اقتصاديًا، وبالتالي سياسيًا، تفتقد ثقافة الحريات العامة وحقوق الإنسان، وسيادتها على اقتصاديات العالم وسياساته، كما يتوقع الخبراء، سيعني أن نموذجها السياسي والاجتماعي والاقتصادي سيكون السائد، وسيكون الرابحون نخبة رجال الأعمال الصغيرة، بينما ستخسر المجتمعات، وتخسر الشعوب.
يقع جذر هذه المشكلة والتهديد الذي يتربّص بمستوى المكاسب الاجتماعية الذي تحقق من قبل واستمرار التراجع عنه، في صلب المبادئ التي يقوم عليها اقتصاد السوق، وفي التنظيم
 الاقتصادي العالمي القائم على مبادئه، وتحديدًا في سياسة الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وإمكانية امتلاك رجال الأعمال ثروات كبيرة غير محدودة، وتكمن أيضًا في حقوق المالكين، وقدرتهم على التصرّف بملكياتهم الكبيرة على هواهم، حيث يستطيع شخصٌ واحدٌ، مدفوعًا بمصالحه الذاتية، أن يتصرّف على نحو أناني، ملحقًا ضررًا كبيرًا بالاقتصادات الوطنية التي تغذى منها، وأنتج ثروته بسببها وبفضلها، سواء كان هو من اغتنى أم وراثة عن أهله، أي "تحكّم مصالح فردية بمصالح عامة كبرى"، إذ ينتقل رجل الأعمال، بثروته وأعماله، من البلاد التي منحته هذه الثروة إلى الجنات الضريبية، وإلى البلدان التي تحقق له مزيدا من الأرباح، مخلفًا وراءه آلاف المطرودين من وظائفهم، مسببًا آلامًا كبيرةً لعشرات آلاف، وربما لأكثر من مواطنيه الذين حققوا، بعملهم ونشاطهم، تلك الأرباح التي حصدها رجل الأعمال وراكمها، ولم يكن له دور يذكر في إنتاجها أكثر من دور مدير تنفيذي لشركاته، يستحق عنه أجرًا سنويًا محدودًا مقارنةً بثروته. ويؤدي هذا المناخ العالمي اليوم إلى تنافسٍ على قضم حقوق المشتغلين، وتراجع مستويات العدالة الاجتماعية في جميع الدول. أي أن التأثير الإيجابي للدول المتقدّمة، في تحسين العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان والمواطنة المتساوية، ينقلب اليوم إلى تأثر الدول المتقدمة بضغوط الدول البازغة سلبًا على مستويات العدالة الاجتماعية فيها.
على الرغم من أن هذه الموضوعات لم تعد تناقش اليوم كثيرًا، ولكن لا بد أن يأتي يوم قريب، تطرح فيه على طاولة النقاش ثانية، ليس فقط حقوق الأثرياء في نقل ثروتهم حيث يشاؤون، بل السؤال بشأن حقوقهم في امتلاك كل هذه الثروات الهائلة، وتحكم مصلحة أفراد قلائل بمصالح فئات اجتماعية واسعة.