المواطنة والتعدّدية أم وهم التسامح الديني؟

المواطنة والتعدّدية أم وهم التسامح الديني؟

23 اغسطس 2018
+ الخط -
في التاريخ العربي الحديث، ومنذ أحداث العام 1860 الطائفية، لا تزال تتعالى دعوات إلى التسامح بين الأديان والمذاهب والطوائف. تمرّ تلك الدعوات، ومناسباتها، كما مرّت، مرور زوبعة في فنجان. وبقيت المحصلة دائما، كراهيةً دينيةً متزايدةً بين شرق وغرب، وسياسات هوية تعصف بالأول، وقد أنهكته ثوراتٌ مهزومة، وأخرى مضادّة، وحروبٌ أهلية وطائفية، وقتلٌ على الهوية، في ظل هيمنة نظم استبدادية فشلت في تحقيق الاندماج، وبناء الأمة/ الدولة، واتضح قصور أيديولوجيتها وزيف شعاراتها مرحلة بعد أخرى.
ازدادت تلك الأنظمة عنفا ودموية، بعد إدراكها مدى تآكل شرعيتها في مواجهة موجاتٍ من حراك جماهيري، رأت فيه الشعوب ربيعها، لتستثمر، حفاظا على مواقعها، في توظيف الدين خدمةً للسياسة، وفي اللعب على التوازنات الطائفية والجهوية والعشائرية.. وغيرها من هوياتٍ فرعية، على حساب هويةٍ وطنيةٍ جامعة، لتواجه المجتمعات العربية تهديدا وجوديا متزايدا، بعد أن أصبحت الطائفية أزمةً في هيكلية النظام السياسي العربي.
يفترض التسامح الديني كفّ أتباع الدين الواحد عن اعتبار اختلافاتهم مع الأديان الأخرى 
انحرافا من تلك الأديان عن الصراط المستقيم، للبحث معها عن مشتركاتٍ دنيوية، وتأجيل قضية الاختلاف/ الانحراف إلى يوم القيامة، ليبتّ في شأنها ربّ العباد. فهل يمكن تحقيق تسامح ديني، يرى في الاختلافات مجرّد تمايز على مستوى الحياة اليومية، يمثّل إنقاذا لمجتمعات عربية مأزومة بأزمة نظمها السياسية؟ أم أن التسامح الديني، في حد ذاته، نتيجة متوقّعة للخروج من الأزمة؟
يقوم الدين على إيمانٍ يتضمن إقرارا بقسمةٍ بين خير وشر، وكفر وإيمان، وفي ظل منظومةٍ قيميةٍ تدعو إلى إحقاق الحق وإزهاق الباطل، وبأن الدين ظاهرة جماعية، لا ظاهرة فردية منفصلة عن الممارسة الاجتماعية الجماعية، فإنه يوجب على المؤمنين به الحرص على أن يكونوا على الطرف النقيض من "حزب الشيطان". يقتضي ذلك عقوباتٍ دنيويةً وأخرويةً بحق المخالفين. هنا يضيق هامش التسامح الذي يوفره الدين في حد ذاته. نقول ذلك، من دون إغفال أن استثناءات صوفية، في أديان مختلفة، حاولت أن تضيف إلى الإيمان بعدا إنسانيا بجعل التسامح بنيويا في رؤيتها الدين والدنيا، إلا أنها كانت نفسها ضحية لاتسامح ديني.
وفي ظل تعدّد تأويلات النص المقدّس، ليحتمل النص الواحد قراءاتٍ متعدّدة، تفرض اللحظة التاريخية الراهنة، أو السياق التاريخي الخاص، في كل مرة، إمكانية إعادة تلك القراءة، ما يعني تنقّل الحدود بين الخير والشر، والكفر والإيمان، وفقا للمصالح الاجتماعية السياسية والاقتصادية المتغيرة للجماعة الدينية، في خضمّ الصراع الأيديولوجي مع الجماعات الأخرى، أو تلك المنشقّة عنها، على امتلاك الحقيقة الدينية، التي هي، في ظل هيمنة الثقافة الدينية، ليست سوى مظهر للحقيقة الاجتماعية ـ السياسية التي يسعى أصحاب المصلحة من النخب المسيطرة إلى فرضها على الآخرين.
وبالعودة إلى النصوص المقدّسة للأديان الكتابية: اليهودية والمسيحية والإسلام، نجدها تحتمل وجهين: اعترافا بالآخر وحقوقه، ورفضا له في آن، فورد في العهد القديم أن "كلّ ما تكره أن يفعله غيرُك بك فإيّاك أن تفعله بغيرك" (طوبيا/ 16:4). لكن في ظل بقاء اليهودية دينا إقواميا، أصبح تطبيق تلك الوصايا محصورا بين المؤمنين اليهود، من دون أن تشمل علاقة هؤلاء بالأغيار: "يقف الأجانب يرعون غنمكم، ويكون بنو الغريب حرّاثيكم وكرّاميكم. أما أنتم.. تأكلون ثروة الأمم، وعلى مجدهم تتآمرون" (أشعيا/ 5:61)
تؤكد لنا نماذج تاريخية أن التسامح ليس بالضرورة جوهر الدين، بل هو مشروطٌ باللحظة التاريخية المحايثة له، وببنية النظام الاجتماعي السياسي السائد. وكثيرا ما أخفى التسامح براغماتيةً مبطّنة، ليتم الإعلان عنه في لحظات الضعف، ممثلةً ببدء الدعوة، وقلة الأتباع، وحين لزم على الدين، أو المذهب، التعايش وسط أكثريةٍ من أتباع ديانات ومذاهب كبرى. لكن جذوة التسامح سرعان ما خبت لحظة التمكين، وتحول الدين دينا للأكثرية.
دعت المسيحية المضطهدة، في بداياتها، إلى التسامح، بل إلى الاستسلام في انتظار سعادة أبدية في الآخرة "لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدّك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضًا. ومن أراد أن يُخاصمك ويأخذ ثوبك، فاترك له الرداء أيضًا" (متى/5: 39-41). لكن الخطاب تبدّل لاحقا، ليعلن الإنجيل على لسان المسيح "لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا عَلَى الأَرْضِ. مَا جِئْتُ لأُلْقِيَ سَلاَمًا بَلْ سَيْفًا" (متى/ 10: 34)
بدأ مارتن لوثر، داعية الإصلاح البروتستانتي، معارضا يشكو الحرمان البابوي، وانتهى، بعد أن تبنّى مذهبه ملوك وأمراء ألمان، متعصبا يرى أن لا أمن في مجتمع فيه أكثر من بشارةٍ واحدة، ولم يُبد كالفن أي نوع من التسامح تجاه كل مخالفة للبروتستانتية باعتبارها هرطقة. وعلى خلاف الإسلام المكّي الذي أقرّ بالاختلاف "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود: 118، مكية)، لم يترك الإسلام المنتصر في المدينة للعرب سوى خيار وحيد " وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (آل عمران: 85، مدنية).
بعد عصور وسطى أوروبية، وحروب دينية، أصبح التسامح الديني ممكنا، حين برّره منطق الدولة القوية التي تقبل الاختلاف الديني، وترفض احتكار إرادتها من قبل كنيسة وطنية واحدة، مع فلسفة سياسية وقانونية، رفضت أن تتحمّل الدولة المسؤولية عن الضمير الفردي، وإيمان الإنسان، وخلاصه. ويذهب عزمي بشارة في كتابه "الطائفة، الطائفية، الطوائف المتخيلة" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2018)، إلى أنه "لا يمكن الحديث عن تسامح قارّ، أو بغضاء مقيمة، خارج سياق التحولات التاريخية وطبيعة السلطات الحاكمة وتدخّلها" (ص 500).
ويشرح أن التعدّدية الدينية، في إطار الدولة الحديثة، فرضت التسامح انطلاقا من ضرورات 
الحفاظ على الوحدة الوطنية، عبر تحرير الدولة من التمذهب، ليتم فصل تدريجي للمواطنة عن العضوية في الكنيسة أو الجماعة الدينية. ومع صيرورة العلمنة التي مرّت بها المجتمعات الأوروبية، أصبحت الخلافات الدينية شأنا خاصا بعيدا عن السياسة، وقواعد التعايش في المجتمع، فكلماتٌ مثل التسامح والتعايش التي يردّدها بكثرة اليوم لسان الطائفيين لا تعني التعدّدية وقبولها، لأن التعدّدية تتم، في رأيه، في نظام ديمقراطي، يحقّق المساواة بين المواطنين، حيث لا يجري التعامل مع المواطن بناء على انتمائه الطائفي أو عقيدته الدينية أو المذهبية، سواء بالتسامح أم بالتعصب، بل بصفته مواطنا.
ونقول: لم يعد يكفي، عربيا، علمنة الدولة من دون علمنة المجتمع، الأمر الذي أثار دائما ردود فعل محافظة هنا وهناك، نهضت معها علاقات التضامن الدينية والطائفية والعشائرية، في تغييب دولةٍ مدنيةٍ، لا تقوم على الفرز الطائفي، بل على أساس المواطنة الديمقراطية، ما حّول الدولة غنيمةً للهويات الجماعاتية، تتحاصصها، وتتنافس عليها، لتستثمر الأصوليات الدينية تلك الهويات استثمارا قاتلا.
التسامح الديني خطوة على صعيد تأكيد الاختلاف، لكنها خطوةٌ لاحقة لإقرار المواطنة، فليس تعايشا ذاك القائم على أساس الانتماء إلى المعتقد، دينا أو مذهبا أو طائفة، والتسامح الديني إن هو إلا نتيجة طبيعية للتسامح بين مواطنين متساوين داخل الدولة/ الأمة.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.