سحر طه الحاضرة بيننا

سحر طه الحاضرة بيننا

22 اغسطس 2018

سحر طه.. تعلمت من التصوّف الكثير

+ الخط -
قد لا يعرف كثيرون أن فضائيات ومحطات إذاعة تزعم أنها عربية امتنعت، في حينها، عن إذاعة أغنية تسخر من بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل الذي تلطخت يداه بدماء أكثر من ثلاثة آلاف شهيد فلسطيني في واحدةٍ من مجازر غزة المعروفة، الأغنية وصفته بأنه "نتن"، وسخرت من مشاركته في تظاهرةٍ في باريس ضد الإرهاب، واعتبرته سيد الإرهابيين الذين يقتلون الأبرياء، ويهدمون منازلهم، فيما يبدو الإرهابيون الذين نظمت تظاهرة باريس في مواجهتهم ليسوا سوى تلامذة له، وقد تقدّم للمشاركة في التظاهرة خداعا وتضليلا.. تقول الأغنية: "النتن ياهو، قلبه معاهم، شارك في عزاهم، فكروا محتار، ودموعو أنهار"، وهي من شعر العراقية اللبنانية، وقيل الفلسطينية أيضا، سحر طه، وغنائها. ومبرّر عدم ترويج تلك الأغنية، كما قيل في حينه، أنها تحمل شتيمة غير مقبولة، وكأن ما فعله ويفعله "النتن ياهو" تجاه الفلسطينيين أمر سليم ومقبول.
سحر طه التي أثارت الجدل بشأن أغنيتها تلك فاجأتنا بغيابها قبل أيام، بعدما عاشت تراجيديا قاسية على مستويين: الأول صراعها الطويل مع السرطان القاتل الذي صرعته مرتين، لتعاود حياتها الطبيعية في رحابنا، تعزف وتغني وتنشد للعراق ولبنان وفلسطين وللعروبة المغيبة، وتكتب في النقد الموسيقي، وترسم، وتؤرخ وتوثق لرموز فنيةٍ غابت عن ذاكرتنا، لكن المرض اللعين صرعها في ثالث معاركها معه، وأجبرها على الرحيل في عزّ عطائها، وفي جعبتها، كما كانت وعدتنا، جملة مشاريع في الفن والموسيقى، نأمل أن يتصدّى لاستكمالها زوجها المفجوع سعيد طه، الأديب والصحافي والناشط في مجالات الثقافة والإبداع. وتراجيديا سحر طه في مستواها الثاني هي الأشد قسوة ومرارة، كما وصفتها هي: "لم أخسر أرضا حسب، خسرت مجتمعا، لقد تغيّر العراق كثيرا، وهذا أكثر ما يؤلمني ويصيبني بالإحباط، الحجر يبنى مجدّدا لكن إعداد الإنسان يتطلب أجيالا وأجيالا..".
سحر طه الأقرب إلى التصوف تعلمت من التصوّف الكثير، وقد وضعها المرض وسط أجواء 
روحية أقرب إلى الشفافية، وقرأت في العشق الإلهي، وتشربت قصائد ابن عربي والجنيد والحلاج وابن الفارض ورابعة العدوية، أعطت سنواتٍ من عمرها لتذكّر بعاشقات الله، "أسطوانة (أعشقك أنت) مثلت قمة نضجي الفني"، لكنها لا تعد نفسها متصوّفةً، مع أنها تظل "صاحبة نفس صوفي"، وهو الوصف ذاته الذي أطلقته هي على أربع شواعر معاصرات لحنت وغنت قصائد لهن ذات طابع صوفي.
مرّات عديدة شعرت في لحظات "نوستالجيا" حالمة بأنها حائرة بين وطنين: العراق حيث ماضيها كله الذي لا تستطيع أن تنفصل عنه، طفولتها، فتوتها، دراستها (إدارة الأعمال)، أهلها وأصدقاؤها، وتراث العراق الغنائي الذي تشرّب روحها الموسيقية المرهفة، ولبنان على الضفة الأخرى، حيث زوجها وأطفالها وهواياتها المتعدّدة وآفاق الفن والإبداع التي انفتحت أمامها على سعتها، ولم يكن في مقدورها أن تتخلّى عن أي منهما، "إنه قدر غريب.. مُصابنا في لبنان لا يقل إيلاما عن مصابنا في العراق"، كتبت: "معذرة عراقي، فأنا مشغولة بوطني الآخر لبنان"، غنّت "ودّعت بغداد" في بداية رحلة التيه، ثم كتبت "مقامات بغدادية" استلهمته من وقائع ما يحدث في العراق، وغنّت "محتاره، شو نقدم للوطن، هالعين إلك، بس الأيدين قصار"، كل ما هو عراقي ظل ماثلا أمامها "الله يا تمر بلادي، هوايه من العسل أحلى".
رحلت سحر طه وفي قلبها غصّة، لم تفصح عنها، لكنها ألمحت إليها أكثر من مرة، تنكّرت وزارة الثقافة العراقية ومنظمات الأدباء والفنانين والموسيقيين لهذه الأيقونة المبدعة، وهي تكرَّم وتُحتضن في لبنان وفي غيره، وبخلت عليها عند وفاتها حتى بنعيٍ من سطرين، لكأنها كانت تعرف ذلك وتتوقعه، هو صورة لواقع حال، مرّة قالت عنه بنبرة تحمل طعم المر: "منعت الموسيقى في المدارس بقرارٍ من وزارة الثقافة، بينما كان الدرس الأهم في الابتدائية هو النشيد.. يعيش العراق ديمقراطية الانغلاق.. لقد تردّى المجتمع تحت تأثير التطرّف، وولادة التيارات الدينية التي تسلمت السلطة، وباتت تتحكّم في مفاصل الحياة وفي وزارة الثقافة"!
غابت سحر طه عنا، لكنها أصبحت أكثر حضورا، أكثر التصاقا بهمومنا، اكثر تمثيلا لما نريده، وما نتطلع إليه، وقد مرّت مثل طير شارد أقام عشّه حينا عندنا، ثم هاجر مع الطيور التي رحلت. .. هي تعود اليوم، وسوف تظل حاضرة بيننا.

دلالات

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"