بيت الأشباح

بيت الأشباح

22 اغسطس 2018

(Getty)

+ الخط -
كان من الممكن أن يبقى بيتاً للأشباح، لولا أن مرَّ به العالم الكبير الحسن بن الهيثم، وحيث سمع الناس حوله يتهامسون أنهم يرون في داخله صور أشخاصٍ يسيرون على الحائط؛ فقرَّر أن يُجري تجاربه عليه؛ فلاحظ أن هناك ثقباً صغيراً في الجدار الفاصل بين البيت والشارع، فإذا مرَّ شخصٌ من أمام هذا الثقب يرى صورته مقلوبةً، تسير على الجدار المقابل؛ فأوحى ذلك للمارَّة بأن هناك أشباحاً تسكنُ في هذا البيت.
استمرَّ ابن الهيثم في تجاربه، فأحضر صندوقاً صغيراً مَطليَّاً من الداخل باللون الأسود، ثَقَبَ أحد الجدران ثُقباً صغيراً، وفي مواجهة الثقب وضع لوحاً من الزجاج المصنْفر، وحين عرض هذا الصندوق على تلاميذه، وطلب منهم النظر من خلال الثقب، رأوا صوراً مقلوبة ومضحكة، وهكذا وضع ابنُ الهيثم حجر الأساس لأوَّل كاميرا في تاريخ الإنسانية، وأطلق عليها اسم" الخزانة المظلمة ذات الثقب".
أوحت تجربة ابن الهيثم للعلماء، من بعده، باختراع التصوير الفوتوغرافي، وظهر التصوير فنّاً يتطوّر، يوماً بعد يوم، حتى أصبح على ما هو عليه الآن، وبعد أن كان التحضير لالتقاط صورة يحتاج وقتاً ومجهوداً، أصبح التقاط عشرات الصور لا يستغرق دقائق معدودة، من خلال أجهزة الهاتف الذكية الحديثة، ومع سهولة الحصول على الصور التي توثِّق اللحظة، فقدنا البهجة والدهشة.
في زمنٍ مضى، كانت للصورة قيمة ومعنى؛ لأن الصور كانت قليلة، وكان انتظار الحصول على صورةٍ هو الوقت الجميل الذي نُمضيه، ونحن نحصي الأخطاء التي أصبح من المستحيل تصحيحُها، حين التقطنا الصورة الشخصية، أو الجماعية، وانتظار الحصول على الصورة يعني أننا ننتظر كنزاً ثميناً، سوف يُضاف إلى كنوزنا القليلة التي نحفظها في ألبوم العائلة، أو نضعها في بروازٍ يعلَّق على الحائط، والفارق بين الصور في زمن مضى والصور الكثيرة التي تُلتقط هذه الأيام أن الصور القديمة كانت تلتقط لتعبِّر عن اللحظات الجميلة، وعن المناسبات السعيدة، وعن المواقف التي لا نريد أن ننساها. أمَّا اليوم، فمع كثرة الصور التي يلتقطها الناس لأنفسهم ولغيرهم، ظهرت دراساتٌ كثيرة تؤكِّد أن الصور، مع كثرتها، وسهولة الحصول عليها، ما هي إلا أكبر دليل على إصابة الناس بالاكتئاب، وخير دليل على ذلك أن المشاهير أصبحوا يلتقطون الصور، بكثرة وبزخم لا يوصفان، فيما يعاني غالبيتُهم من الاكتئاب. ونسمع، كلَّ يوم، عن أسماء تنتهي حياتُها بالانتحار، على الرغم من كلِّ مظاهر السعادة التي أوحوا بها للمتابعين، حين نشروا صورهم على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة.
تحوَّلت الصور، من توثيق اللحظة، إلى نقمةٍ علينا، نصنعها بأيدينا، فكم من صورة نشرناها، ونحن نبغي أن نوحي للآخرين، كم نحن سعداء! فدفعت أحد هؤلاء الآخرين إلى أن ينقم على خالقه، وعلى حاله، وهو يشعر بالنقص؛ لأننا حين نشرنا صوراً لكلِّ شاردة وواردة من حياتنا، كنّا بذلك نستعلي، من دون أن نشعر، ونتباهى من دون أن نُحسّ، وندفع المشاهدين إلى أن ينقموا؛ بسبب ما يشعرونه مِن نقص، وتتحوَّل نقمتهم إلى تمنِّي زوال النعمة من بين أيدينا؛ فتزول فعلاً.
في اليوم العالمي للتصوير الفوتوغرافي، ومع مرور 179 سنة على اختراعه، على يد الفرنسي لويس داغيير، ومع تحوُّل الصورة إلى أداةٍ تخدم القضايا العامة، ومع تحوُّل الصورة إلى أداةٍ للحديث، بدلاً من الكلمة والكلام الكثير، أصبحت الصورة سلاحاً ذا حدَّين، والجهلة الذين يلتقطون الصور أكثر من الدارسين والفاهمين والعارفين، والمستغلِّين والمتلاعبين بالصورة أشدُّ خطأً من الجواسيس والمندسِّين، ورُبَّ صورةٍ خدمت قضية، ورُبَّ صورةٍ أضاعت قضية، وأشاعت إشاعة؛ لأنها فُسِّرت خطأ، أو كان القصد منها الإساءة.
اليوم، والصورة أصبحت متاحة، وأصبح كلُّ شيء قابلاً لأن يوثَّق، حتى أدقُّ اللحظات والحركات، فالضحايا كُثر، من المشاهدين ومن الملتقطين المغرمين بـ"السيلفي" مثلاً، ولا عجب أن يُقدِم مصوِّر على الانتحار، بعد أن حقَّقت صورةٌ، التقطَها في مكان ناءٍ، الشهرةَ والانبهار.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.