"النهضة" تلدغ مرّات

"النهضة" تلدغ مرّات

21 اغسطس 2018
+ الخط -
لم يعد خافيا اليوم أن حركة النهضة حزب جماهيري، والأول سياسيا في تونس، لكنها بقدر اتساعها وشعبيتها مثقلة بالتناقضات التي تشقّها عموديا وأفقيا. ومن شدة خوفها من الانقسام والتشظّي، تصبح، في أحيان كثيرة، أشبه بالجسم الضخم الذي يتحرّك ببطء شديد، خشية السقوط في الحفر والمطبات.
خلال المحطات الانتخابية، تندفع الحركة نحو الشعبوية المطلقة، وتمارس أسلوب بعض صيادي السمك الذين يستعملون الشباك الضيقة، حتى لا يتركون مجال الهرب للأسماك الصغيرة وبقية الكائنات البحرية التي لا تصلح طعاما للإنسان، ولكن سرعان ما تنتبه القيادة إلى أنها ابتلعت مع وفرة الصيد بعض الحيتان السامة التي يمكن أن تسبّب لها سوء هضم شديدا.
في سنة 1989، قرّر الرئيس زين العابدين بن علي تنظيم أول انتخابات تشريعية بعد وصوله إلى السلطة. تهيأت حركة الاتجاه الإسلامي للمشاركة في هذه الفرصة التي توفرت لها بعد مغادرة قيادتها السجون. وكان القرار، في البداية، الاكتفاء بتشكيل عدد قليل من القوائم، حتى تتجنب إثارة مخاوف الحاكم الجديد. لكن تحت ضغط القواعد، وعدم حكمة القادة، اتسعت دائرة المشاركة، حتى أصبحت الحركة بسرعة عجيبة المنافس الأول للحزب الحاكم في جميع الدوائر الانتخابية، وهو ما استوجب الاستنفار العام، وجعل بن علي والمحيطين به يعتقدون أن الحركة تريد الانقلاب عليه "ديمقراطيا". ومن يومها، بدأ التفكير في تصفيتها سياسيا وتنظيميا، وهو ما تم فعلا مع مطلع التسعينات.
إلى جانب الجشع السياسي، تورّطت الحركة في وضع بعض الأشخاص المثيرين للجدل على رأس قوائم محسوبة عليها. وممن تم اختيارهم يومها شيخ زيتوني جليل، لكنه كان محافظا ولا يملك أي خبرة في المجال السياسي. استدرجه الصحافيون، فإذا به يدافع عن إعادة نظام العبيد والجواري، ضمن رؤيته لمفهوم الشريعة، ووجوب الالتزام بتطبيقها. وكانت تلك الحادثة مدخلا للهجوم على الحركة، والتشكيك في مصداقيتها.
بعد حوالي ثلاثين عاما، تعيد الحركة ارتكاب الخطأ نفسه. اختارت أحد المحامين المتشدّدين على رأس قائمة إحدى البلديات في منطقة ساخنة. بعد نجاحه، وتولي رئاستها، طلب هذا الشخص من أعوان البلدية الامتناع عن تطبيق القرار الرئاسي الخاص برفع المنع عن زواج التونسية بغير المسلم. كما دعا البرلمان إلى سحب الثقة من رئيس الجمهورية، وإقالته بعد أن دعا إلى المساواة في الإرث. وكان لذلك وقع الزلزال داخل حركة النهضة التي سارعت إلى التنديد بتلك المواقف، وتبرّأت من الرجل، في إشارة منها إلى عدم اعتراضها على إقالته. أي أنها أعطت الأولوية لمصالحها الحيوية، بحكم العلاقة الخاصة التي تربط زعيم الحركة، راشد الغنوشي، برئيس الجمهورية، الباجي السبسي. ولم تدرك أنها وقعت في الفخ، إلا بعد أن نزل الفأس على الرأس.
تبدو أحيانا حركة النهضة أشبه بسيارةٍ قوية، لكن قطع الغيار التي تتكوّن منها ليس جميعها أصلية الصنع، وبعضها مأخوذٌ من موديلات مختلفة. تشتغل السيارة، وتنتصر في بعض المسابقات، لكنها تبقى عرضةً في كل منعرج أو أزمة إلى عدم التجانس بين مكوناتها، وإثارة قلق السائق. وفي هذا السياق، يعتبر لطفي زيتون أحد كوادر الحركة الذي أدرك، بحكم قربه الشديد من تجربة "النهضة" في الحكم، أن كثيرين من إخوانه لم يدركوا بعد طبيعة المنعرج الذي سلكته الجماعة، عندما قررت أن تصبح حزبا مدنيا، وأن تمارس السلطة مع شركاء لها قدموا من الضفة الأخرى. لهذا السبب، تتحسّس الحركة دائما مواقعها، ويجدّد أبناؤها طرح السؤال نفسه: إلى أين نسير؟ وللسبب نفسه أيضا، لم يهدأ خصومها عن التشكيك في هويتها، والبحث عما تخفيه قلوب قادتها وعقولهم.
لا يعني ذلك أن الحركة لم تتقدّم. لقد قطعت "النهضة" خطوات مهمة في الاتجاه الصحيح. لكن ما ينقصها هو الوضوح أولا، والتجانس ثانيا، وألا تفتح أبوابها لكل طارقٍ من دون التأكد من وجهته، لأن اختلاف الأهداف والطرق لن يؤدي إلا إلى التمزّق والانتهازية "تحسبهم جميعا وقلوبهم شتّى".