عهد وشهيّة الإعلام

عهد وشهيّة الإعلام

03 اغسطس 2018
+ الخط -
طرح اهتمام وسائل الإعلام الفلسطينية والعربية والدولية بقضية اعتقال الفتاة الفلسطينية، عهد التميمي، في سجون الاحتلال الإسرائيلي، ثم إطلاق سراحها، مروراً بجلسات التحقيق معها ومحاكمتها، جدلاً لافتاً على منصّات الإعلام الجديد. وقد راح جمهور "الفيسبوكيين" إلى تقديم شروحاتٍ وتحليلاتٍ بشأن أسباب تركيز الإعلام على قصة عهد، مع إهمال قصص عشرات الأسيرات اللواتي اعتقلن وحوكمن وخرجن من السجون. المؤسف أن من تبرّعوا في التحليل والتفسير شطحوا بعيداً، إلى حد الاتهام والتجريح، مرة في عهد وأهلها، ومرة في وسائل الإعلام والصحافيين الذين واكبوا الحدث ونقلوه إلى الجمهور.
من دون الخوض في مياه الجدل العكرة التي غابت عنها وجهة نظر الإعلاميين المختصين في هذا المجال الحيوي والحسّاس، من الضروري توضيح واحدةٍ من البديهيات التي تحكم العمل اليومي لوسائل الإعلام، وتجعل وسائل الإعلام التقليدية، والجديدة، تهتم بحدثٍ ما، وتهمل آخر، أو تتابع قصة ما، وتغفل أخرى. أول درس يتلقاه الدارسون للصحافة والإعلام، ويُعد من أبجديات التأهيل الإعلامي، يتعلق بالقيم الأساسية للخبر الصحافي. بمعنى آخر، ما هي المعايير التي تجعل من حدثٍ ما خبراً صحافياً، تقدّمه وسائل الإعلام على باقي الأحداث، فيتصدّر صفحاتها ونشراتها، أو ما هي القيم التي تدفع وسائل الإعلام إلى تناول القصص الخبرية بدرجاتٍ متفاوتة.
أول هذه القيم، الغرابة والإثارة فيما وقع، ويعلم الدارسون في كليات اللإعلام المثال الأشهر في ذلك: "عندما يعضّ الكلب رجلاً" فليس هذا خبرا، ولكن عندما "يعضّ الرجل كلباً"، فهذا هو الخبر. إذ يُعد عنصرا الإثارة والغرابة من المعايير الأساسية للاهتمام بالقصة الخبرية. من هنا تنشغل وسائل الاعلام بالقصص الصحافية التي تنطوي على الإثارة والغرابة، بصرف النظر عن طبيعة هذه الأخبار، سياسية أو اجتماعية، طريفة أو مأساوية... إلخ. أما المعيار الآخر من القيم الإخبارية، فهو الصراع والمواجهة، ويُفسّر المنظّرون في أدبيات الإعلام ذلك بميل النفس البشرية إلى هذا النوع من الأخبار، حيث يميل الفرد المتلقي إلى إشباع نزعات الخير والشر في ذاته من خلال متابعة هذه الأخبار، وهذا ما يفسر اهتمام وسائل الإعلام بأخبار النزاعات، والصراعات، والحروب، والكوارث الإنسانية... إلخ. وهناك قيم أخرى للخبر، مثل القرب الجغرافي والنفسي، والآنية، والجاذبية. أضف إلى ذلك قيمةً أخرى مهمة، تخص ميل الجمهور إلى الاحتفال بالإنجازات البشرية، مثل تحطيم الأرقام القياسية، أو كسر الحواجز، مهما كانت طبيعتها، وكلما كبر حجم الإنجاز زادت قيمته الخبرية.
بالعودة إلى التغطية الإعلامية لحدث اعتقال عهد التميمي، ومحاكمتها وإطلاق سراحها، يمكن القول إن هذه القصة الصحافية توفرت على قيم خبرية عالية ومتنوعة، تفتح شهية كل إعلامي محترف. فهي تنطوي على الغرابة والإثارة (طفلة فلسطينية تضرب جنديا إسرائيلياً مسلحاً). العادي وغير المُثير أن يضرب الجندي الإسرائيلي الطفل الفلسطيني، بل ويقتله. وفي قصة عهد عنصر "الصراع والمواجهة". ولذلك تفاعل الجمهور مع مشهد صفعة الجندي، لأنها تلامس نزعاتٍ إنسانيةً نفسية، سواء عند الجمهور الذي فرح لإهانة الجندي، أو الجمهور النقيض الذي أراد الانتقام من طفلة مست هيبة الجيش الإسرائيلي.
وتنطوي قصة اعتقال عهد ومحاكمتها كذلك على قيمة "القرب الجغرافي" بالنسبة لوسائل الإعلام الفلسطينية والعربية، و"القرب النفسي" بالنسبة لوسائل الإعلام الغربية التي ركّزت على شعر عهد الأشقر ولون عينيها. وفي القصة قيمة الإنجاز، إذ إنها كسرت حاجز الخوف من الجيش الإسرائيلي الذي طالما صوّرته الدعاية الإسرائيلية جيشا لا يُقهر، وفي ذلك قيمة إضافية جاذبة للتغطية الإعلامية.
لم تخرج المواكبة الخبرية لقصة عهد التميمي عن قواعد العمل الصحافي اليومي، المحكوم بالقيم الأساسية للخبر. وأي قراءات أو تأويلات غاصت في الجدل من دون اعتبار هذا البعد المهني قاصرة ومبتسرة. أما النقاش في "ما وراء الخبر" فحديث آخر، يدخل في باب السياسات والأجندات التحريرية لكل وسيلة إعلامية، وهو حديثٌ شائكٌ لا يتحمله جِلد عهد الطريّ.
AE03ED80-FBD8-4FF6-84BD-F58B9F6BBC73
نواف التميمي
أستاذ مساعد في برنامج الصحافة بمعهد الدوحة للدراسات العليا منذ العام 2017. حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة غرب لندن في المملكة المتحدة. له ما يزيد عن 25 سنة من الخبرة المهنية والأكاديمية. يعمل حالياً على دراسات تتعلق بالإعلام وعلاقته بالمجال العام والمشاركة السياسية، وكذلك الأساليب والأدوات الجديدة في توجيه الرأي العام وهندسة الجمهور.