وجوه السيد فيديا

وجوه السيد فيديا

20 اغسطس 2018

نايبول يلقي محاضرة افتتاحية لمهرجان أدبي بجامعة داكا (18/11/2016/Getty)

+ الخط -
كتابات كثيرة رافقت رحيل الكاتب فيديا نايبول في الصحافة العالمية الناطقة بالإنكليزية، البريطانية خصوصاً، بيد أن خيطاً واحداً انتظم تلك الكتابات، على الرغم من تعدّدها، حتى بدا أنه لزوم ما يلزم. أي لا مناص منه ولا مفرّ: إنه كاتب كبير أغنى اللغة الأدبية الإنكليزية على نحوٍ لم يفعل غيرُه في فترته، وصنع فرقاً في المدوّنة الروائية المكتوبة فيها.. لكنه، وهنا الوجه الآخر المُلزِم ذكره، رجعيٌّ في مواقفه من العالم. هذا أقرب تشخيصٍ له يقدّمه، في جملةٍ مشابهة، الناقد اليساري البريطاني تيري إيغلتون. لم أقرأ تقريظاتٍ، أو نقوداً، في خصوص كاتبٍ راحلٍ تتعدّى المنجز إلى الشخص، وتربطهما، تقريباً، في لُحْمَة واحدة غير قابلة للانفصام، كما فعل سيل الكتابات الذي انهمر غداة رحيل نايبول. ليست كافيةً، والحال، قراءة نايبول كاتباً من دون قراءته شخصاً. أي لا مجال لمعرفة أغوار كتاباته، والمسارب التي اتخذتها من دون معرفة الالتباسات العديدة التي انطوت عليها شخصية الكاتب. لا يبتعد السيري هنا كثيراً عن المتخيّل (الروائي)، بل ربما لا يمكن فهم أحدهما من دون فهم الآخر.
قد نمضي أكثر من ذلك. مثلاً، يرحل كونديرا. سنقول رحل الكاتب التشيكي الأصل ميلان كونديرا عن كذا عام في باريس. ممكن أن نزيد إلى هذا السطر أسطرا أخرى عن الكتلة الاشتراكية والحرب الباردة وانشقاقات كتّاب أوروبا الشرقية، أواخر القرن الماضي. ثم نتحدث عن انتقاله إلى فرنسا ونيله الجنسية الفرنسية، واستقراره فيها مذ ذاك. لكن لا مزيد.
هذا لا يكفي في حالة نايبول، فمن الصعب تعريفه، شخصاً، ومُتَحَدَّراً في أسطر مشابهة لكونديرا: فهو بريطانيّ لأنه نال هذه الجنسية على أرضية الإقامة في بريطانيا. هندي؟! ليس تماماً. فهو لم يأت إلى بريطانيا من الهند، بل من مستوطنة كاريبية تدعى ترينيداد. إنه ترينيدادي إذن؟ كلا. لأن عائلته جاءت من الهند إلى الكاريبي في ركاب المستعمر البريطاني للعمل في مزارع السكر في "العالم الجديد".
إنه، إذن، جِماع ما ذُكر وما لم يُذكر، مع ما ينطوي عليه هذا التركيب من التباساتٍ في الهوية. هل كانت هذه الهويات الملتبسة تعتمل في ذهن الشاب، ابن الصحافي البسيط والفقير في بورت أو سبين، الذي حصل، بتفوّقه، على منحة دراسية في جامعة أكسفورد، قلعة المتروبول الاستعماري الأكاديمية، قلعة السادة البيض الذين يبسطون سلطتهم على "موطنيْه" الاثنين: الكاريبي والهند.
هذا التداخل في الهويات، وما ينتج عنها من انزياحاتٍ وجراحٍ عبّرت عنه، تقريباً، كتاباتُه كلها، ولكن على نحو خاصّ فيه تماما. أي على نحو شخصي. فالهوية هنا ليست عامة. وقد لا تشمل غيره، كما فعلت كتابات الروائيين الطالعين من عالم ما بعد الاستعمار.
تصل حماسة أحد مقرّظي سيرته إلى حد هذه المقارنة الباهظة: كان هناك شابٌّ، في السادسة والعشرين من عمره، يجلس في شقّة متواضعة في جنوب لندن، أواخر خمسينيات القرن الماضي، يعكف على كتابة عمل روائي طويل، سيكون واحداً من أهم الأعمال الروائية في القرن العشرين، إنه: بيت السيد بيسواس. ثم يقارِن: كان سيرفاتنيس في أوائل الخمسينيات من عمره عندما نشر الجزء الأول من "دون كيخوته"!
لم يكن منزل السيد بيسواس سوى منزل والده: سيربساد نايبول، ففي هذا العمل، سيضع المهاد لما يأتي من أعمال، لكنها ستكون أكثر قتامةً، وربما أكثر "تصفية" حسابات، وأقلّ مرحاً، وتفهماً للعالم. لن يكون في مقدور أبناء عالم ما بعد الاستعمار التعرّف إلى صورتهم في أعماله، لكنها لن تكون قادرةً على إيجاد مساحةٍ مشتركةٍ مع الأوروبي الأبيض. أين المشكلة؟ هل هي في شخصية نايبول تحديدا، أم في عدم قدرة هذا "الأبيض" على أن يوفر هذه المساحة المشتركة؟ يجيبنا، هنا، إدوارد سعيد: الأمر يتعلق، عند نايبول أو سواه من كتّاب المستعمرات السابقة، بتحولهم إلى شهودٍ على الجانب الآخر من النقاش، بل على الجانب الآخر من قضية شعوبٍ طالعةٍ من رحم استعمار طويل. هناك من في وسعه الذهاب إلى أبعد مما قاله سعيد: إنه يكتب عنا (العالم الثالث) كما يريد سادة العالم "الأول". في سيرته التي كتبها باتريك فرنش (الرسمية من وجهة نظر نايبول)، يتمكّن بصعوبة من رؤية "شيء أسود" في خصوص ديريك والكوت، وربما قصد كل أبناء البشرة السوداء الذين ساقهم المستعمر أمامه عبيد أرض، أو بالأحرى عبيداً مباشرين.
أختم بجملة لسعيد: قضية غير "البيض"، عند نايبول، لا تكمن في أنهم ضحايا للإمبريالية، بل لأنهم يعانون من عيب فطري فيهم: إنهم ليسوا بيضا!
E7B23353-660D-472F-8CF3-11E46785FF04
أمجد ناصر

شاعر وكاتب وصحفي من الأردن