عن سياسة "الإحالات" واستحالة إتمام الصفقات

عن سياسة "الإحالات" واستحالة إتمام الصفقات

20 اغسطس 2018
+ الخط -
في كل مرة، كان ينعقد فيها مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغّر (الكابينت)، كان الاختلاف بين أعضائه سيد المداولات، واحتمالات تحقق تهدئة قصيرة أو طويلة لم تكن لتبلغ مآلاتها، وكل ما وصلت إليه الأمور لم يكن ليتعدّى إعلانا لوقف إطلاق النار، في انتظار جولةٍ جديدة من جولات التصعيد؛ هذا في ظل تأكيدات واضحة على غياب أي استراتيجية تكفل وقف التصعيد المتمادي، وجولات الضرب بيد من حديد، أو استخدام قفازات توقف الاتجاه نحو الحرب (على قطاع غزّة).
وقد بات واضحا أن سياسة الردع الإسرائيلي تراجعت كثيرا عما كانته، نظرا لعدم الاندفاع أو الإقدام على حرب؛ قد تفقد المستوى السياسي "سرديات إنجازاته" لبقائه حاكما، وتكرار فوزه في أي انتخابات مقبلة. وبحسب يوسي ميلمان ("معاريف" 12 /8 /2018) فالحرب ليست على جدول الأعمال الآن، لأن رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، يفعل كل شيء كي لا يدخلها، لعلمه أن انتخاباتٍ ستجري في غضون بضعة أشهر. وفيما يوصي جهاز الأمن بالعمل على تسوية، إلا أن نتنياهو ووزير الحرب، أفيغدور ليبرمان، غير مستعدين لأن يقودا خطوة غايتها اتفاق وقف نار مقابل رفع الحصار الإسرائيلي، وفتح كامل لمعابر الحدود، وإعمار القطاع بما في ذلك بناء محطة توليد طاقة، وشبكات مجار، ومنشأة تحلية، وغيرها.
لا تجزم التقديرات الإعلامية الإسرائيلية بإمكانية الاتجاه نحو الحرب، فهي ليست على جدول أعمال نتنياهو الآن قبل الإنتخابات المقبلة، وهي لذلك ترى في مساعيه العلنية عبر اجتماعات الكابينيت، و(السرّية)، بحسب ما ذكر عن زيارته الخاطفة التي لم يعلن عنها لمصر، حيث كشفت القناة الإسرائيلية العاشرة مساء الإثنين، الثاني عشر من أغسطس/ آب الجاري، عن لقاء سري جمع بين نتنياهو والرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، يوم 22 من شهر مايو/ أيار الماضي، وحسب القناة العاشرة، نقلاً عن مسؤولين أميركيين، فإن نتنياهو مكث في القاهرة عدة ساعات، والزيارة ظلت سرية ولم يعرف عنها غالبية أعضاء الكابينيت السياسي والأمني الإسرائيلي. ونتنياهو والسيسي بحثا مقترحات للدفع بتسويةٍ سياسيةٍ في قطاع غزة، تشمل أيضاً عودة السلطة الفلسطينية، ووقفاً لإطلاق النار، وتخفيفاً كبيراً في الحصار الإسرائيلي - المصري المفروض على القطاع. وبحثا مسألة إعادة جثتي الجنديين الإسرائيليين والمواطنين الإسرائيليين المحتجزين في قطاع غزة، وخطة السلام الأميركية "صفقة القرن". ووفقاً للقناة الإسرائيلية، أكد السيسي أمام نتنياهو أن الحل في قطاع غزة يجب أن يتم بعودة السلطة
الفلسطينية إلى القطاع وتولي مسؤوليات إدارته، حتى لو تم ذلك تدريجيا، ومن دون نزع سلاح المقاومة الثقيل شرطا أوليا ومسبقا. كما نقل السيسي لنتنياهو رسالة أن على إسرائيل والدول العربية والمجتمع الدولي الضغط على الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، لتولي مسؤولية إدارة شؤون القطاع، على الرغم من عدم رغبته في ذلك.
وتفاديا للانزلاق نحو حرب موسعة، لكنها قد تؤدي إلى النتيجة نفسها، ذكرت صحيفة هآرتس (12 /8) أن الحكومة الإسرائيلية تتجه نحو استبدال خوض عملية عسكرية واسعة في قطاع غزة، بالعودة الى سياسة الاغتيالات. وقد بدأت التجهيزات للعمليّة، في أعقاب جولات من اجتماعات الكابينت من دون التوصل إلى موقف حاسم وموحد، وبعد إعلان جيش الاحتلال الإسرائيلي وجهاز الأمن العام (الشاباك) تفضيلهما عودة سياسة اغتيالات قادة حركة حماس على عملية عسكريّة واسعة في قطاع غزّة، يخشى الاحتلال أن تتضمّن اجتياحًا بريًا. لكن التقديرات الإسرائيليّة تشير إلى خشية من أن تؤدي سياسة الاغتيالات إلى ردّ فعل عنيف من "حماس" تقود إلى حرب موسعة. في حين تصر الحكومة الإسرائيليّة على نفي التوصل إلى تهدئة مع الحركة، بعد جولة التصعيد يومي 9 و 10 آب /أغسطس الجاري، بوساطة مصريّة وأمميّة. وبررت أوساط نتنياهو، لصحيفة "هآرتس" ذلك بأنّ إسرائيل رفضت الالتزام بتهدئة إن لم تلتزم بها "حماس" لتصبح المعادلة الجديدة "تهدئة مقابل تهدئة"، ونقلت الصحيفة عن مسؤول سياسي إسرائيلي قوله "لم نلتزم بأي وقف لإطلاق النار للوسطاء، نحن في حالة حرب وهنالك تبادل للضربات العسكريّة".
وقبل ساعات من توديعه منصبه، قال قائد المدفعية في قيادة المنطقة الجنوبية العقيد "يوفال بن دوف" لموقع "معاريف هشفوع" العبري، إن إسرائيل هي الرابح الأكبر من عدم دخولها في معركة في قطاع غزة منذ أكثر من أربع سنوات، كما أنه يجب العمل، قدر الإمكان، للحيلولة دون الدخول في معركةٍ جديدة في غزّة.
وعقب الأيام التي شهدت تطورات في ملف إمكانية التوصل إلى تسوية بين فصائل غزة وإسرائيل بوساطة مصرية، وفي أعقاب توجه وفود من الفصائل الفلسطينية في غزة إلى القاهرة الثلاثاء الماضي، للمشاركة في الحوارات بشأن ملف التهدئة مع الاحتلال، والمصالحة الموعودة؛ قال مسؤول في إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أن الإدارة الأميركية معنية بالتوصل إلى تهدئة طويلة بين إسرائيل وحماس في قطاع غزة، "مع أو بدون" تدخل السلطة الفلسطينية أو دعمها. وأوضح، وفقاً لما نقلته صحيفة هآرتس، بأنه إن عادت السلطة الفلسطينية وسيطرت على قطاع غزة، سيكون هذا تطوراً إيجابياً يساهم في تحسين الوضع، لكن هذا ليس شرطاً للتهدئة. وشدّد على أن الإدارة الأميركية ما زالت تعتقد بأنه "سيكون ممتازاً إن سيطرت السلطة مجدّداً على قطاع غزة للعمل على تحسين الظروف المعيشية". ونسب إلى مصدر سياسي في "حماس" قوله إن مصر تستمر في جهودها للتوصل إلى نسخة من اتفاق مع إسرائيل يشمل السلطة الفلسطينية، لأنه حسب رأيه: "كل اتفاق يُخرج السلطة الفلسطينية من آلية صنع القرار سيكون هشّاً للغاية".
وفي حين يعتبر بعضهم الهدنة وسياسة "الهدوء مقابل الهدوء" مجرّد "صفقة جانبية" ذات أبعاد فئوية، لها أهداف أبعد من التفرد بقرار السلم أو الحرب، للتأثير على مدى التحكّم بالقرار الوطني، واستبعاد تحقيق "المصالحة"، والإبقاء على عزلة الأطراف الفلسطينية وغربتها فيما بينها، واستمرار التفرّد والاستئثار والتسلط على جانبي الانقسام الفئوي، في كل من غزة والضفة؛ هناك توقعات بأن يكون هناك اتفاق ليست السلطة والرئاسة الفلسطينية شريكةً فيه، ما يكرّس سياسة الاستفراد والاستيلاء على قرار لم يعد فلسطينيا، بقدر ما داخلته مصالح ومؤثرات إقليمية ودولية، لا تعمل بالضرورة لصالح الفلسطينيين.

مهما يكن من أمر الاتفاق، أو مجموع "اتفاقات متدرجة" مع إسرائيل، فيما يتعلق بالوضع في قطاع غزة، ستبقى مسألة التهدئة أو الهدنة، تراوح عند حدود الإحالة أو ربما الاستحالة، طالما استمر الوضع الوطني الفلسطيني يعاني إرباكات وتعقيدات غياب استراتيجية سياسية موحدة، وغياب أدوار وتأثيرات قيادة جبهوية متماسكة، على أسس برنامجية واضحة؛ فالحلول "الإنسانية" ومقترحات "السلام الاقتصادي"، كما المفاوضات العبثية، لا يمكنها أن ترقى إلى أن تكون بديل الوحدة الوطنية، ووحدها الحلول السياسية البينية بين فصائل العمل الوطني الفلسطيني، وتصحيح المسارات الوطنية بعيدا عن الحسابات والمصالح الفئوية، ما يمكّنها من إعادة رصّ صفوف الكل الفلسطيني على أسس كفاحية برنامجية، تواجه علل الانقسام أولا، وتداوي مهمات مجابهة الاحتلال التي أصابها وهن عدم مقارعته، ما سمح لاتفاق أوسلو، بنتائجه الكارثية، أن يحلّ التنسيق الأمني وسلطته المشتركة محل قيادةٍ لم تعد تجيد غير "سياسة الإحالات" إلى قراراتها، من مجلسٍ إلى آخر، تسويفا ومماطلة وهروبا من تنفيذها، في وقت غيّبت فيه ذاتها عن مقارعة الاحتلال، وأرغمت شعبها على "الامتناع" عن القيام بتلك المهمة المقدّسة التي يجري الالتفاف عليها، بكل أسباب التفرّد والاستئثار السلطوي، وتشجيع حال الانقسام والتشرذم، واستمرار الرهانات العابثة على المفاوضات، في وقتٍ كان يجب أن تتقدّم قيادة التحرّر الوطني الصفوف في مواجهة "صفقة القرن"، بما يقود إلى إفشالها عمليا، وإفشال كل تداعياتها الإسرائيلية والفلسطينية، المحلية والاقليمية، وصولا إلى منع إتمام تطبيقات "قانون القومية"، الهادف إلى تكريس نكبة أخرى، إلى جانب النكبات التي حلت بالشعب الفلسطيني، طوال السبعين عاما الماضية.
47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.