خطوة تونسية جبّارة

خطوة تونسية جبّارة

20 اغسطس 2018
+ الخط -
ما تشهده تونس من صراعٍ بين مفهوم المدنية باعتباره نظاما معتمدا والأولويات الدينية بالنسبة لأحزاب أخرى يحتاج إلى كثير من الفهم العميق لطبيعة المجتمعات، فتونس تحديداً، المطلّة على البحر المتوسط، والقريبة من أوروبا، يمكنها، بفعل عوامل تاريخية وجغرافية، التأثّر بروح المدنيّة بحدّها الأدنى، غير أنها، من جهة أخرى، ترتبط حكماً بنسيج ديني ـ قبائلي ـ عشائري، من صنع بيئتها الاجتماعية والتاريخية. لذلك، فإن إعلان الرئيس الباجي قائد السبسي دعمه مشروع قانون يضمن المساواة في الميراث بين الرجل والمرأة، شرّع الأبواب أمام مرحلةٍ جديدةٍ في تونس، هي الأدقّ تقريباً منذ الثورة عام 2010.
قد تكون للسبسي حسابات انتخابية مبكّرة، في شأن رئاسيات 2019، لكنه في الوقت عينه، بات من السليم الدفع بالأمور قدماً في البلاد. لم يحرم السبسي أحدا من حقه في موضوع الميراث، لكنه حسم بأن لتونس حقاً في ترويج مجتمع مدني يسمح بتطوير القوانين، لما فيه خير الإنسان. المفهوم المدني، وحتى العلماني، في أي من الدول العربية، لا يُمكن النظر إليه غزوا ثقافيا لفئة ضد الدين، بقدر ما أنه يمنح الإنسان الأولوية على حساب الطوائف والأديان والثقافات التي يتكوّن منها كل بلد. يجب على الدول العربية الخروج من بوتقة "تطوير الانقسام" إلى "تطوير الاندماج"، كي لا تعاني كما لبنان، المشهور بنزاعاته المتأتيّة من انقساماته الطائفية.
في المسار التاريخي، سنصل دائماً إلى نقطة صدام بين المدنيّة والدين. حصل الأمر في أوروبا التي لم تتعلم كيفية المواءمة بينهما سوى بالدم. نحن لا نحتاج إلى الدماء، خصوصاً أنه يُسفك أصلاً في صراعاتٍ طائفيةٍ في مناطق عدة في الشرق الأوسط. نحتاج إلى استيعاب فكرة أن "المدنيّة، وحتى العلمانية، ليست ضد الدين"، بل ما هو ضد الدين هو ما يصنعه البشر، خصوصاً بعض رجال الدين الذين يحوّرونه لمصالح زمنية وسلطوية، ما يجعل الناس في تحدٍ دائم مع الآخر، وفي قلب نزاعٍ لا يصل إلى نتيجة، سوى إرضاء رغبات بعض رجال الدين.
ما نحتاج إليه حقيقة هو نظام يرتقي بالإنسان في الدول العربية من منزلة الخضوع لرجل الدين، إلى رتبة الإيمان بالإنسان قاعدة أساسية لتطوير المجتمعات. اسكندنافيا فعلتها وكذلك اليابان، وهو ما نحتاج لفعله. لا يمكن، ونحن في عام 2018، معالجة الأمور وكأننا في عام 1200 مثلاً. انتهى زمن السيطرة على عقول الناس وتدجينها. دفع غاليليو غاليلي ثمناً غالياً لنظريته مركزية الشمس، لا مركزية الأرض، لكن منطقه انتصر، ما دفع الكنيسة الكاثوليكية إلى الاعتذار منه بعد نحو ثلاثمائة سنة على وفاته.
تحتاج الخطوة التونسية أكثر من مواكبة، وتطلّع نحو مستقبل عربي أوسع. على أن يكون ذلك كقطار متنقل، يسمح بتوزيع الروح المدنية الإنسانية على الشعوب العربية، فلا تُظلم امرأة بسبب نقص حقوقها، ولا يُظلم طفلٌ بسبب التعدّي على حقوقه، ولا يُظلم مجتمعٌ بسبب نظرة سلبية. الحاجة إلى مواكبة العصر باتت أكبر من أي وقتٍ مضى، وإلا فسنكرّر الصدام الذي حصل في أوروبا في القرون الوسطى، والذي سالت بسببه دماء كثيرة، لكنه أفضى، في النهاية، إلى انتصار المنطق المدني. المنطق الذي يضع الإنسان أولاً، أما بالنسبة للعقائد الديمقراطية والرأسمالية والشيوعية وغيرها، فتمكن مناقشتها ودحضها في أي لحظة، لكن قيمة الإنسان أساساً أكبر من كل اللحظويات والعقائد. خطت تونس خطوة جبّارة، تستوجب متابعتها ونصرتها، فلا مجال أبداً للعودة إلى الوراء.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".