النكاية الفلسطينية

النكاية الفلسطينية

19 اغسطس 2018
+ الخط -
تمكّنت مفاوضات التهدئة في قطاع غزة، والتي تقوم مصر برعايتها، من قلب المعايير الفلسطينية رأساً على عقب، وتبدّل الأدوار بين حركتي حماس وفتح، لتبدو الأخيرة الحامل الجديد لراية المقاومة الفلسطينية، على الرغم من مواقفها السابقة منها خلال السنوات الماضية، وتحديداً منذ وصول الرئيس محمود عباس إلى السلطة. لا ينبع موقف السلطة الجديد من تغيير في الموقف الاستراتيجي الذي وضعه أبو مازن في ما يخص العمل المسلّح، بل هو جزء من استراتيجيا النكاية التي يبدو أن السلطة تعتمدها لمواجهة حالة التهميش التي وجدت نفسها بها على أكثر من صعيد، ليس في ما يتعلق بمفاوضات التهدئة وحسب، بل حتى في ملف العملية السلمية الذي كان عباس يظن أنه الوحيد القادر على التعامل معه.
ظهرت النكاية الفلسطينية بوضوح، في الأيام الماضية، عبر استياء السلطة من إقصائها عن ملف التهدئة، أو على الأقل تهميش دورها إلى الحد الأدنى. وعلى هذا الأساس، بدأت تخرج من السلطة وبطانتها تصريحاتٌ لم يكن متوقعا سماعها من المسؤولين في رام الله، وخصوصاً في ما يتعلق بالعمل العسكري ضد الاحتلال، والذي تنظر السلطة إليه، منذ سنوات طوال، أنه عمل عبثي لا يؤدي إلى نتيجة. لكن هذا كان قبل الحديث الحالي عن التهدئة طويلة الأمد في قطاع غزة، إذ فجأةً تحولت التهدئة إلى "عمل خياني"، بحسب ما نسب إلى القيادي في "فتح"، عزام الأحمد، قبل أن يتم سحب التصريح، لكن بعد فوات الأوان، فقد حمل التصريح في طياته تبنياً غير مباشر للعمل المقاوم الذي تنكره السلطة. إذ قال الأحمد، في تصريحه الملغى، إن اتفاق التهدئة بين الفصائل والاحتلال قبل عدة أيام "خيانة للشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية". وأضاف إن ما يجري الآن ليس مفاوضات، وإنما مهرجان للإعلان عن الاتفاق.
وإذا كان كلام الأحمد أسيء فهمه، كما قال، فإن بيان المجلس المركزي الفلسطيني، والذي صدر أول من أمس، يحمل المعنى نفسه، إذ جاء في بيان المجلس أن "التهدئة مع الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية وطنية لمنظمة التحرير الفلسطينية، باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وليست عملا فصائليا"، وأن اقتراح مشاريع إنسانية وموانئ ومطارات خارج حدود دولة فلسطين هو "تصفية للقضية الفلسطينية". وجاء البيان أيضاً بعد بيان مماثل لكتائب شهداء الأقصى، الذراع العسكرية لحركة فتح، والتي اندثرت منذ مدة، غير أن المفاوضات بشأن غزة أخيرا أعادتها إلى الحياة، إذ أعلنت: "لن نلتزم بأي اتفاق تهدئة مع الاحتلال لا يشمل الضفة وغزة بشكل متبادل ومتزامن، وبضمانات دولية، مع إعادة بناء مطار غزة ومينائها"، وأكدت التمسّك "بالمقاومة كخيار لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر".
ينسى قارئ هذين البيانين أن من يقف وراءهما هو المسؤول الأول عن التنسيق الأمني مع الاحتلال في الضفة الغربية، والذي يرفض وقفه بأي شكل، ويكاد يظن أن أبو مازن، وفي إطار استراتيجيا النكاية، في طريقه إلى إعلان تبنّي خيار "الكفاح المسلح" حلا وحيدا لتحرير فلسطين، ليس لأنه وصل إلى ذلك عن قناعة، بل لأن حركة حماس بدأت تسير على الدرب الآخر، ولأن مصر والولايات المتحدة همّشتا دور السلطة الفلسطينية في مفاوضات اتفاق التهدئة، وفي ترتيبات صفقة القرن.
ولم تكتف السلطة باعتماد هذه الاستراتيجيا داخليا، بل يبدو أنها تعمد إلى توسيع مداها إقليمياً، فها هو أبو مازن يتصل بالرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، ليعلن وقوف السلطة إلى جانب أنقرة في الحملة التي تتعرّض لها. وهنا الأمر ليس عن قناعةٍ بأهمية الدور التركي في المنطقة، بل نكايةً بالولايات المتحدة ومصر والدول الخليجية التي بدأت الإعداد لمرحلة ما بعد عباس.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب رئيس تحرير "العربي الجديد"، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".